مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية، كثُر استعمال لفظ "التحكم" في قاموس كثير من القيادات الحزبية، في مقدمتها قيادة الحزب الذي يرأس الحكومة وبعض حلفائه. وكما يعرف ذلك المتتبعون للحياة السياسية بالمغرب، فاللفظ ظهر في قاموس حزب رئيس الحكومة قبل سنوات، ويعود (على أقل تقدير) إلى سنة 2011، حينما كان الأمين العام للحزب يتحدث عن "حزب التحكم" في إشارة إلى حزب الأصالة والمعاصرة.
يرتبط اللفظ إذن بالحزب الذي أسسه صديق الملك، والمستشار الملكي الحالي، فؤاد عالي الهمة. وعكس التقية المفضوحة التي يستعملها مروجو هذا اللفظ فاللفظ نفسُه يُعلن عن المقصود، ويقول بأن "التحكم" يشير ضمنيا إلى المؤسسة الملكية وعلى رأسها الملك. وهو ما يتفادى بنكيران وبعض حلفائه التصريح به علناً وعلى رؤوس الأشهاد. لكن الجميع يُدركه، وتستحضر الذاكرة الجماعية للمغاربة من خلاله تجارب سابقة من "جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية"، إلى ما كان يُعرف ب"أحزاب الكوكوت". وتظهر هذه التجارب، في تمثلنا الجماعي، كتجارب مرتبطة بالقمع، وسنوات الرصاص، ونتائج التقويم الهيكلي، وتزوير الانتخابات، وهيمنة وزارة الداخلية على الحياة العامة، و... فكل هذا كان يضع المؤسسة الملكية على مستوى الخطاب السياسي (وينبغي أن نقول ذلك بشجاعة) على طرف نقيض مع الديموقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية...إلخ. وبالمقابل، كانت مجموعة من القوى السياسية، اليسارية أساسا، تضع نفسها في موقع الطرف السياسي الذي يحمل هذه المطالب و"يناضل" من أجلها. ونفسُ الوضع يتم اصطناعُه اليوم من خلال لفظ "التحكم". فحزب رئيس الحكومة، ومعه بعض من حلفائه، يتموقعون ك"مناهضين" لهذا "التحكم" وباعتبارهم حُمَاة للديموقراطية التي يهددها حزب الأصالة والمعاصرة ومن ورائه مؤسسه، صديق الملك ومستشاره، أي من ورائه (بشكل أو بآخر) الملك والمؤسسة الملكية.
وباعتباري واحدا من الناخبين الذين سيصوتون يوم 07 أكتوبر المقبل فقد صار لزاما علي أن أعرف لصالح مَنْ سأصوت: هل للتحكم أم لمناهضي التحكم؟ هل لأنصار الديموقراطية أم لأعدائها؟
الأمر خطير جدا! وقراري كناخب سيحدد مصير البلاد وما إذا كانت ستواصل السير في اتجاه الديموقراطية أم أنها ستتحول إلى "التحكم"، أي، بصيغة أخرى، نحو الدكتاتورية. وهذه الأخيرة يمثلها الحزب الذي أسسه صديق الملك ومستشاره، وبالتالي فمن ورائها المؤسسة الملكية والملك. وبالنتيجة فالأمر أخطر. وعلي أن أفكر مائة مرة قبل أن أتخذ قراري بالتصويت لهذه الجهة أو تلك. وأن أفكر معناه أن أفحص، أولا، رصيد الطرفين: الذي يزعم أنه حامي الديموقراطية، والذي يُنعت بأنه يريد "التحكم".
يقول تاريخي كمواطن في المغرب المعاصر إنني مواطن في دولة استرجعت استقلالها سنة 1956. وخرجت من تجربة الاستعمار دون دستور، ودون مؤسسات، بنظام ملكي تقليدي، وبجميع المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية. ويقول التاريخ إياه بأن أول دستور للبلاد تم إقراره عبر استفتاء شعبي يوم 07 دجنبر 1962. وقد كان دستورا ممنوحا طرحه الملك الحسن الثاني للتصويت الشعبي. هذا الدستور نص في فصله الثاالث، بالحرف وباللفظ الصريح، على أن " الأحزاب السياسية تساهم في تنظيم المواطنين وتمثيلهم ، ونظام الحزب الوحيد ممنوع بالمغرب"، كما أكد ذات الدستور في الفصل التاسع على أنه:" يضمن الدستور لجميع المواطنين: - حرية التجول وحرية الاستقرار بجميع أرجاء المملكة؛ - حرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله وحرية الاجتماع؛ - حرية تأسيس الجمعيات وحرية الانخراط في أية منظمة نقابية وسياسية حسب اختيارهم. - ولا يمكن أن يوضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون."
نعم، كانت هذه هي إرادة المشرع في أول دستور للبلاد قبل ما يزيد عن نصف قرن. وبينما كان الملك الحسن الثاني يدافع عن دستور يضمن التعددية السياسية، ويكفل الحريات، كان عُمْرُ الأمين العام للحزب الذي يرأس الحكومة، والذي يرفع الآن شعار "التحكم"، لا يتعدى ثمان سنوات قبل أن يلتحق بصفوف تنظيم إسلامي متطرف اسمه "الشبيبة الإسلامية المغربية"، يؤمن (مثل غيره من التنظيمات الإسلامية الأخرى) بإقامة نظام استبدادي للحكم عنوانه "الخلافة"، يتمركز حول شخص "الخليفة" كما هو الشأن حاليا بالنسبة لتنظيم داعش. أما قوى سياسية أخرى، يسارية بالأساس، فقد كانت تؤمن بإقامة "دكتاتورية البروليتاريا" على النمط الستاليني، وتعلن ذلك بكل وضوح. وعليه، يحق لي أن أتساءل كناخب: هل يملك حزب رئيس الحكومة، وحلفاؤه الذين يرفعون اليوم شعار التحكم، الشرعية التاريخية لتبني المشروع الديموقراطي، وأكثر من ذلك لاتهام خصومهم ب"التحكم"؟
طبعا، لا علاقة لي من قريب ولا من بعيد بحزب الأصالة والمعاصرة، ولا بغيره من الأحزاب، ولا يربطني بأي منها رابط تنظيمي. ومن موقعي كمواطن بسيط، وكناخب، يهمني كثيرا ألا يتم استحماري بهذا الخطاب الذي يقلب الحقائق. ولربما يتعين على كثير من القوى الحزبية أن تكتسب جرأة النقد الذاتي. فتاريخيا، لم يكن اليسار ولا الإسلاميون ديموقراطيين. بل إن عدم استيعاب الخيار التعددي، الليبرالي، الذي بلوره الملك الراحل وعبر عنه من خلال دستور 1962، ووقوف أغلبية اليسار ضده آنذاك، قبل أن يظهر الإسلاميون على الساحة بدورهم، قد فوت على المغرب والمغاربة فرصة ذهبية لا تعوض. ولنا أن نتصور كيف كان سيكون وضع المغرب اليوم سياسيا لو أن القوى السياسية الأساسية آنذاك في البلاد قد كان لها الذكاء السياسي اللازم، ووضعت يدها في يد الملك، ولم تكن هناك محاولات انقلابية، ولا مؤامرات، ولا محاولات لتصفية الملك الحسن الثاني.
صحيح أن الفترة الممتدة من بداية الاستقلال وحتى بداية التسعينيات كانت حافلة بالانتهاكات ومليئة بالمآسي والدم، والمعتقلات السرية الرهيبة، والرصاص. لكن الذي قاد إلى هذا هو الاحتقان السياسي الذي كان مصدره الرئيس هو توتر العلاقات بين اليسار والملك. وسبب هذا التوتر (وعلينا أن نقول ذلك بالجرأة اللازمة) هو أن اليسار لم يكن يقبل بالليبرالية ولا بالديموقراطية لفترة طويلة، ولم يتحول إلى الإيمان بالعمل من داخل المؤسسات إلا بعد أن باءت كل محاولات استعمال القوة لتغيير نظام الحكم بالفشل الذريع.
ربما، ومع كل المؤاخذات التي يمكن أن نسجلها على قيادات اليسار القديمة، فإن نزوعها نحو نظام شمولي، على النمط السوفياتي أو غيره، كان مبررا ومسوغا ومستساغا من الناحية الأيديولوجية. وهناك سياق تاريخي قد يشفع نسبيا لهذه القيادات في رفضها لليبرالية وللديموقراطية "البورجوازية". أما يسار اليوم، أو ما تبقى منه، فأقل ما يمكن أن يُقال عنه أنه تائه إيديولوجياً. وحين ترفع بعضُ مكوناته اليوم شعار "رفض التحكم" فمطلبُها بسيط جدا: متى حصلنا على مرتبة جيدة في الانتخابات، وشاركنا في الحكومة القادمة، فليس هناك تحكم والمغرب بلد ديموقراطي، ومتى حصل العكس فليست هناك ديموقراطية وهناك "التحكم". وكذلك الشأن أيضا بالنسبة لرئيس الحكومة وحزبه: دعوني أكون رئيسا للحكومة من جديد وإلا فهناك "التحكم". وهذا منطق أقل ما يُقال فيه أنه صبياني. وهو، خلافا لما يتظاهر به، ليس رفضا لتزوير محتمل في نتائج الانتخابات وإنما هو دعوة مبطنة لتزويرها لفائدة حزب رئيس الحكومة وحلفائه وإلا صار استقرار البلاد مهددا وعدنا إلى "ما قبل 20 فبراير".
إن "رفض التحكم" ليس، في أحسن الأحوال، سوى دعوة إلى ممارسة التحكم لصالح أطراف دون غيرها. وقد سبق للأمين العام الحالي لحزب "الأصالة والمعاصرة"، إلياس العماري، أن صرح بأنه كانت هناك تعليمات بجعل حزب رئيس الحكومة يحتل الصدارة في انتخابات 2011. وإذا صح هذا، والعهدة على العماري، فهذا "التحكم" المزعوم هو الذي جاء أصلا بالذين يتظاهرون اليوم برفضه، أي أنه أكذوبة بهذا الشكل أو ذاك. فإما أن العُماري كذب وصدقت صناديق الاقتراع، وبالتالي فالتحكم أكذوبة، وإنما أن العماري قد صَدَق وأن "رفض التحكم" اليوم من طرف حزب رئيس الحكومة وبعض حلفائه أكذوبة. ولربما كانت مصيبتُنا العظمى هي أن معظم قادتنا السياسيين ظلوا يبحثون عن بناء مجد شخصي حتى وإن كان على الأكاذيب!
عبد الرحيم الوالي