مضحك : حصاد ينفذ ما تمليه "الوشوشات "
كان بإمكان أسبوعية "تيل كيل" الصادرة بالفرنسية من الدار البيضاء، كان بإمكانها أن تكتفي بالصور، في عددها الأخير، لكي تستحق أن تكون عددا نموذجيا صالحا لدراسة شكل ومضمون الصحافة التي تمارس الإعلام الموجه أو الدعائي التضليلي والنافث لغبار التعتيم على حقائق الحراك السياسي المغربي... سأشرح.
غلاف المجلة يُبرز ظلا (أو خيالا ) ضخما وغامض الملامح للسيد محمد حصاد وزير الداخلية، وهو نفسه بوجه عابس تتطاير منه تكشيرة شرارة عنف سلطوي يترجمها العنوان "الانحراف السلطوي"، وداخل العدد، صورة أخرى للسيد حصاد في خطوات صرامة سلطوية، وأخرى للسيد فؤاد عالي الهمة، المستشار الملكي، في نظرة حادة أعلى وإلى أبعد من انكفاءة رأس السيد حصاد في وضع تلقي مهاتفة آمرة. كل ذلك في مقابل صورة السيد عبد الإله بنكيران، وهو منشرح الأسارير داخل حشد شعبي شبابي. الصور، منفردة ومتداخلة، تحاول إنتاج وترسيخ معنى أن وزير الداخلية في شخص السيد حصاد، ليس إلا متسلط مشحون يحركه تسلط أضخم غامض الملامح، من خارج دائرة الضوء في الحياة السياسية المغربية، لعله هو الرسم الحركي لما أسمته المجلة "التحكم"... اسم رائج في بعض الخطاب السياسي المغربي...
كل هذا لا علاقة له لا بالأخبار ولا بالتحليل ولا بالتحقيق، وهي أجناس تعبير صحافية، يفترض، في مجلة "فوق حداثية"، ممارستها خدمة لقرائها وتنويرا لهم. كل ذلك، له علاقة بالتحامل وبتحريض عن سبق إصرار وترصد، وفي المستوى الأول للقراءة، ضد شخص الوزير محمد حصاد. "شيطنة" أو "وحشنة" الشخص لتسهيل "تكليفه" بتنفيذ "مؤامرة" العودة بوزارة الداخلية إلى سابق طبيعتها الدساسة والقمعية لما قبل "العهد الجديد". أما في المستوى العميق لقراءة ذلك "الكوكتيل مولوتوف" من الصور، تسعى المجلة إلى ترسيخ رسالة سياسية، تفيد بأن "الجرافة" السلطوية، التي "أخرجها" السيد محمد حصاد من مرآب الداخلية ويسوقها، هي أصلا في ملكية كيان شبح متغول ضد المؤسسات وضد الديمقراطية.
ولأن المجلة لم تكتفي بالصور، فقد "أوضحت" بالجمل الفرنسية الرشيقة، أنها "اتهامات من حزب العدالة والتنمية لوزير الداخلية بأنه يهدف إلى إزاحة السيد بنكيران من الحكم"، وأنه قد يكون منفذ "التحكم". وإذا سلمنا بهذا الإدعاء، فمعناه أن الوزير يحضّر "الانقلاب" على مؤسسة الحكومة ومن خلالها على المؤسسات الديمقراطية. وبالتالي نكون أمام "دولة عصابات" الوزير فيها مأجور لدى واحدة منها ولعلها الأقوى...الأخت ضحية وشوشات من أوساط شغوفة بالدسائس وتهدي بما "يَتَكَوْبَسُها".
تنسيب الاتهامات لحزب العدالة والتنمية وتمريرها في صيغ اشتراطية، هو نوع من تلفيف رسالة سياسية وتيسير هضمها من طرف المتلقي. كاتبة الافتتاحية تسوق على لسان "أطر" العدالة والتنمية، وبلا اسم وبلا مرجع، ادعاءات بخلاصات سياسية جسيمة من نوع "أن حاسة الهيمنة لدى المخزن تترجم رفض الإسلاميين من طرف القصر"...وفي نفس الافتتاحية تسجل "الإضراب عن الكلام" الذي التزم به السيد عبد الإله بنكيران اتجاه سلوكات وممارسات التضييق على العدالة والتنمية التي تكلف بها السيد محمد حصاد. وتفسر ذلك "الصمت" بكونه يعبر عن "القلق" الذي يخالج السيد بنكيران من الوضعية.
المتحدث الرسمي باسم الحزب ورئيسه لا يرى ما يدعوه إلى الكلام، ولا يستنجد بالرأي العام لتخليصه من "مؤامرة " وزيره في الداخلية عليه ومن "اضطهاده" له... والمجلة تصر على أن "تستنطق" صمته لفائدة ادعائها، وتعززه بكلام منسوب إلى مجهولين في الحزب، في تخلي واضح عن أبسط القواعد المهنية... وفي عملية استقطار أضاليل من داخل حقائق. ومن تلك الأضاليل لإثبات سطوة الاستبداد. تعتبر الكاتبة، رئيس الحكومة بكونه تنكر لوعده بالاستقالة "حين يدفع إلى خيانة قناعاته."..في ادعاء بأن التحكم السلطوي يرعب رئيس الحكومة نفسه إلى حد التساهل معه أو حتى التواطؤ معه أو اتقاء شره بدافع انتهازي حفاظا على الموقع وبأي ثمن...اعطوها استقالات اعطوها فوضى اعطوها تناطح مؤسساتي لكي تستريح...
إنه التهويل في أوضح صوره. خلق فزاعة زمجرة "التوحش السلطوي" في وجه حراك الحياة السياسية المغربية. لتجريد الحراك من مصداقية تدافعاته الديمقراطية، بين فرقاء يمثلون تنوع وغنى المقاربات السياسية، لتحديات تواصل التنمية وتعبيد مسالك تحقيق تطلعات المغاربة لتجويد حياتهم. تدافعات متصلة بسياقات التمرين على الديمقراطية بكل ما يرافق التمرين من عثرات ومن مناكفات ومن ملاسنات ومن حالات حيوية ومن حالات وهن...
غير أن هذا التهويل وهذا التضليل تذهب به المجلة إلى أبعد من مجرد التحامل على شخص السيد حصاد والإدعاء به"شهادة زور" على تراجعات سلطوية تهدد الحياة السياسية. الواقع أن ذلك التحامل ظالم في حق الشخص وفي حق الوزير، الذي تشكل حصيلة وزارته، في التقويم الإحصائي والنوعي لحصيلة الحكومة، واحدة من مصادر اعتزاز رئيس الحكومة نفسه (الذي تفترض المجلة أن الوزير يحاول إزاحته من الحكم)... في مستوى الإنجازات الأمنية، في نمو وتطوير برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية... وفي الإعداد اللوجستيكي والقانوني لاستحقاقين انتخابيين وطنيين، الجماعي السابق والتشريع المقبل، وذلك بتعاون مع القيادي في العدالة والتنمية وزير العدل والحريات الأستاذ مصطفى الرميد.
الأبعد والأخطر في ما ذهبت إليه المجلة من تهويل، محاولة ترسيخ صورة حملة ممنهجة ومخطط لها تمارسها وزارة الداخلية ضد حزب العدالة والتنمية بما يعزز الاستنتاج الذي أوردته على شكل "الشعور بأن القصر لا يريد العدالة والتنمية على رأس الحكومة المقبلة"... هكذا وبدون سند ولا مصدر، تُقرر المجلة أن "القصر" (التعبير المجازي عن الملك) يعادي حزبا سياسيا مغربيا، أو يصارعه أو ينفر منه وضدا على الدستور و ضدا على الآليات الدمقراطية...نفس "القصر" الذي قال صاحبه، ملك البلاد، في خطاب عيد العرش الأخير، أنه لا يفاضل بين الأحزاب، ونهى الأحزاب عن أي شكل من أشكال توظيفه في حركيتها أو أي إيحاء بقربها منه أو بقربه منها... المجلة تصر على إقحام "القصر" في التدافعات السياسية الانتخابية...إنه تعبير عن أمنية لتلغيم الحياة السياسية ولتأجيج التحالفات الحزبية إلى مستوى التناحر المولد للفتنة، عبر حشر "الداخلية"، وقد تجردت من مصداقية الفاعل العمومي والمحايد، حشرُها في صورة جهاز منفلت عن الضبط أقرب إلى عصابة مسخرة ضد حزب سياسي... وتنفذ توجيها بمنع حزب سياسي من تصدر الانتخابات، حتى ومن احتمالات التنافس الانتخابي الديمقراطي و الذي نبه الملك و بصرامة على احترامه، من احتمالاته أن يمكّن الناخب ذلك الحزب من ذلك الموقع.
كل ذلك تحامل محشو بادعاءات، ضد حياة سياسية مغربية يبدو أنها توجع المجلة، وتنغّص عليها خيالاتها...تحامل لا يسوق لا خبرا صحيحا ولا يعرض تحقيقا موثقا ولا يقدم تحليلا مقنعا...لا شيء من أدوات وقواعد الصحافة المهنية المتعارف عليها عالميا...مثل مبادئ حقوق الإنسان وضمنها الحق في الخبر الصحيح و أيضا حق الإنسان في احترام ذكائه...عدم احترام تلك القواعد وتلك المبادئ...هو ما أدى بالمجلة إلى الانطلاق من فرضية هي أم الأضاليل وهي المنبع لكل ذلك الملف وكل ذلك اللف والدوران...تقول المجلة "بعد خمس سنوات من 20 فبراير...الذين وشوشوا في أذن الملك بأن تنازلاته كانت كبيرة يبدو أنهم ربحوا...لم يتحقق الوعد بالتطور الديمقراطي ...تحقق التضييق على الحياة السياسية، ووزارة الداخلية هي من تكلف بالعودة إلى العادات القديمة." ...ملك لا يفي بوعده الديمقراطي ويشغل أذنيه فقط ليملأها موشوشون بما يقنعه بالتراجع عن تنازلاته لشعبه...تلك هي الرسالة التي يود من وشوش بها للمجلة أن تصل إلى من يهمه الأمر أو يكثرت به...أليس هذا قصف للحياة السياسية بالأضاليل واستفزاز لكل الفاعلين فيها ومحاولة لتبخيس جهودهم للتقدم في المسار الديمقراطي...ما هذه الأراجيف...وما هذا الاستخفاف بفطنة المغاربة ... ما هذا الخبط في الحقائق السياسية كما ينسجها المغاربة ويعملون على ترسيخها وتطويرها... حقائق ليس فيها ملك بهذه "الأذنية" ولا بهذه الهشاشة و مزاجية حتى يتملص من اختيارات استراتيجية هو من اقترحها على شعبه و يلح على المضي فيها في خطاباته و في منجزاته ، ولا فيها "موشوش" بهذه الجاذبية السحرية في ليّ مسار التاريخ للزج بشعب بكامله في منعرجات معتمة الآفاق، ولا فيها أحزاب سياسية وهيئات مجتمع مدني على هذا المستوى المذل من الانقياد والاستسلام للتراجعات عن المكتسبات الديمقراطية والتصفيق لعودة الاستبداد...ولسنا شعبا بلا مؤسسات وبلا ذاكرة وبلا آمال وبلا تقاليد وبلا دستور وبلا قوانين وبلا كرامة، حتى يجري فينا ما تتمناه لنا المجلة وننحني ونصبر ونحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه...
يبقى أن نسأل من أفتى للمجلة باقتراف هذه " الدسيسة"...و هي مجلة يفترض أن تعبر أو تعكس حساسيات بعض أوساط الأعمال والاقتصاد وهم المستفيد الأول من تطورات مناخات الانفتاح والحريات ومن تأسيسها على ثوابت الإختيار الديمقراطي المدستر...يمكن افتراض أن صاحب الفعلة يضايقه المسار المغربي، وهو من يأمل في عودة الماضي بكل استبداده و بكل آليات التهميش و الإقصاء، لأنه يريد الدولة له وحده وفي خدمة مصالحه و مدرة للريع و للأرباح له...و ليس دولة كل المغاربة لفائدتهم كلهم جامعة و منشطة لفعاليتهم وللعبور بهم إلى المستقبل...و يربح الوطن.