فاز الروائي والقاص التونسي حسونة المصباحي بجائزة محمد زفزاف للرواية العربية في دورتها السادسة، والتي ينظمها موسم أصيلة الثقافي الدولي. صاحب “هلوسات ترشيش” من الضيوف الدائمين على منتدى أصيلة منذ سنوات، وهو أيضا من الروائيين العرب الأكثر ترددا على المغرب منذ الثمانينيات. “أحداث أنفو” التقته بأصيلة حيث حضر ليتسلم جائزة زفزاف، وأجرت معه الحوار التالي.
_ روايتك الأخيرة “أشواك وياسمين”، هل هي خيبة أمل من ثورة الياسمين بتونس ومن الربيع العربي عامة؟
_ _ “أشواك وياسمين” التي صدرت عام 2015 بتونس تعكس في الحقيقة مراحل مختلفة من تاريخ تونس. والدافع الأساسي لكتابة هذه الرواية هو ما حدث في تونس بعد انهيار نظام بن علي. لقد ظن الشعب التونسي أنه حقق ثورة حقيقية، ثورة الكرامة والحرية كما سموها أو ثورة الياسمين كما سماها آخرون، والحال أن ما وقع لم يكن ثورة بمعنى الكلمة، ولم يفض لا إلى الحرية ولا إلى الكرامة، وإنما ارتد بتونس إلى الوراء، وأنا وعيت منذ البداية بما سيحدث رغم أنني عشت بعيدا عن تونس خلال حكم بن علي ولم أعد إليها إلا في أواخر 2004، ومع ذلك فما إن وطأت قدماي أرض تونس حتى عرفت أي واقع صار يعيشه التونسيون، لذلك ما وقع كان سقوط نظام وليس ثورة، سقوط جاءت بعده الفوضى، واستغلته أحزاب من مختلف الأشكال، وخصوصا الإسلاميين واليساريين..
_ تتهم اليسار، الذي عانى الأمرين في عهد بن علي وساندت تنظيماته النقابية الثورة..
_ _ نعم، لأنهم هم أيضا مسؤولون عما يحدث في تونس من خراب وفوضى. لقد ظنوا أنهم انتصروا ولم يقرأوا الواقع جيدا معتقدين أنهم سيصبحون القوة السياسية الأولى في المشهد السياسي التونسي ليجدوا أنفسهم أقلية. هؤلاء عاشوا في الوهم ولم يزل كثير منهم يظن أنهم أزالوا نظام بن علي. أنا كروائي عدت إلى التاريخ في “أشواك وياسمين” لكي أقول أن الفساد، الذي قامت الاحتجاجات ضده لم يقع فقط في عهد بن علي، بل في فترات مختلفة من تاريخ تونس، وقد عدت إليها لأحكي تفاصيله في نظام البايات مثلا لأبين كيف أدى الفساد المالي للحاشية والسلطة الحاكمة إلى الاحتلال وتوقيع معاهدة الحماية مع فرنسا. الأمر نفسه فعلته مع الاستبداد، حيث تجد في الرواية عودة إلى فترات تاريخية سابقة على نظام بن علي. لقد أثارني تصور التونسيين أن التطرف الديني، الذي ظهر بعد سقوط النظام، شيء جديد عليهم، بينما عدت إلى التاريخ لأسلط الضوء على الفتن التي عصفت بتونس في القرون الوسطى والحديثة بسبب التطرف الديني. فعلت هذا لأقول للتونسيين أن الغنوشي وباقي المتطرفين، الذين جاؤوا ليحكمونكم هم نسخة طبق الأصل لزعماء حركات دينية قديمة.
_ راهنت في هذه الرواية على التخييل التاريخي مع التركيز على أطروحة إيديولوجية..
_ _ طبعا استفدت من التاريخ لكن بوصفي روائيا حاولت تقديم صورة مفصلة عن تونس، وهذا لم يحدث من قبل عند أي روائي تونسي، فأنا أول من قرأ تاريخ تونس انطلاقا من الأحداث، التي أسقطت نظام بن علي، لأفصّل وأكشف ما هو مخبوء ومجهول وغير معروف عبر شخصيات وأحداث.. في هذه الرواية هناك تقنية، وأنا أعد المادة وأكتب هذه الرواية كنت أتنقل بين عواصم وبلدان، تونس وألمانيا وبراغ ولوس أنجلس حيث أمضيت عام 2012، في كل واحد من هذه الأمكنة أروي فصلا حتى يعرف القارئ أين أنا وكيف أنظر إلى الأحداث من هذه الزاوية أو تلك. أنا كاتب حديث، وفي الغالب لا نعرف أين يكتب الروائيون نصوصهم. في براغ، التي زرتها بعد سقوط نظام بن علي بعد أشهر أعود إلى كافكا وأروي من خلاله الكوابيس العربية. فروايات هذا الكاتب الكبير تعكس الواقع العربي المرير، أليس الإنسان العربي هو شخصية “جوزيف ك”، الذي يستيقظ ليجد الشرطة تتهمه ظلما ويموت مثل كلب؟ أليس هو سامسا، الذي يستيقظ ليجد نفسه وقد مسخ حشرة..
_ هذه استعارات كبرى
_ _ تماما، هي استعارات كبرى أوظفها لأقرأ من خلالها الواقع التونسي والعربي. لقد زرت الدار البيضاء وتخيلت ظهور البوعزيزي، الذي كان سببا في هذه الانتفاضة بعدما أحرق نفسه، ليحكي قصة حياته الأخرى، فهو لم يكن بطلا بل شاب منحرف، وعندما فعل بنفسه ما فعل لم يفكر في القيام بثورة ضد النظام، وإنما كان يومها في حالة غضب وأضرم النار في جسده. وفي لوس أنجلس أروي الفتن الدينية مشيرا إلى المكان، الذي أكتب منه. لقد اعتمدت هذه التقنية في الكتابة وأنا أتمثل قولة الكاتب الألماني الكبير زيبالد “علينا أن نتحدى النماذج الجاهزة”. وأنا أردت في هذه الرواية أن أتحدى النماذج المكررة، التي نجدها في أغلب الروايات العربية. ليس هنالك أي ابتكار. فليس مهما فقط الأحداث المروية، بل هناك اللغة والتقنية والبنية.. ثمة شيء أساسي في هذه الرواية، فرغم كثرة الأحداث والأمكنة والتنقل بين الأزمنة، لا يمل القارئ، وهذا ما أدركته من خلال العديد من القراء الذين تحدثوا عن خاصية التشويق في الرواية. وهذا ليس بالأمر السهل فقد أصبح التحدي مضاعفا مع وجود التكنولوجيا الحديثة.
_ في نصوصك السردية ثمة تمثيل سلبي لفئتين، الإسلامويين والشعبويين، الذين عمموا البلطجة في الفضاء العمومي. هل هو حدس المثقف أم إقامتك الطويلة في ألمانيا ما كان يسمح لك بالمقارنة والتقاط الظواهر والتنبيه إلى مآلاتها الدرامية؟
_ _ عندما ذهبت إلى ألمانيا كان ذلك بمحض اختياري. كانت الأوضاع صعبة جدا في تونس، وكنت أعاني الأمرين ماديا ومعنويا وهو ما وثقته في “الآخرون”. ورغم إقامتي بألمانيا فقد كنت على صلة دائمة بتونس وبواقعها في جميع تجلياته وانعطافاته وتضاريسه، ما اتضح بعد سقوط نظام بن علي أن الإسلاميين لم يكن لهم إلا هدف واحد، وهو تدمير النموذج النهضوي الإصلاحي التنويري التونسي، الذي ظهر مع خير الدين باشا في أواسط القرن التاسع عشر، وقد مكن تونس من تكوين نخبة متعلمة مستنيرة تعرف الحضارة الفرنسية وهي التي واجهت فيما بعد الاستعمار، وعندما تكونت الدولة الحديثة كانت هذه النخبة موجودة عبر بورقيبة، الذي وضع مجلة الأحوال الشخصية من أجل تحرير المرأة ونشر التعليم في الخمسينيات والستينيات وقد كانت ثورة تعليمية بمعنى الكلمة، أقول هذا رغم مساوئ النظام الأخرى. هدف الإسلامويين ضرب هذا المشروع والقطع معه انطلاقا من إيديولوجية نصرة الإسلام، والحقيقة أن بورقيبة لم يكن يوما ضد الإسلام وإنما كان ضد التزمت الديني، وقد كان على حق. لننظر ماذا يفعل اليوم الإسلاميون غير غسل أدمغة الآلاف من الشباب التونسي وتجنيدهم في حركات إرهابية. لقد عشش الأرهاب في تونس بسبب انتشار التطرف الديني على نطاق واسع انطلاقا من المساجد. أما الشعبوية فأعني بها اليساريين، الذين يتحدثون طول الوقت عن الشعب دون أن يعرفونه، ويرفعون الشعارات ولا يقرأون الواقع، وكثير منهم يتشدق بالديموقراطية وهو يظن أنها كلمة سحرية بمجرد نطقها يمكن معالجة كل المشاكل، وهذا غير صحيح. لقد اتضح الآن في تونس أن الناس لم تعد تعني لهم الديموقراطية أي شيء في ظل الأزمات الاقتصادية، التي تتخبط فيها البلاد والفوضى والأوساخ المنتشرة في المدن والخوف من المستقبل وانعدام الأمن والأمان. وأي مجتمع يهيمن عليه الخوف يصبح مجتمعا مشلولا وعاجزا عن بناء أي كيان ديموقراطي. في ظل الإرهاب والخوف والجوع والبؤس وانخرام هيبة الدولة تنتعش الشعارات الكاذبة والانتقادات السلبية حتى من أولئك الموجودين في البرلمان، الذين ينتظر منهم الشعب حل مشاكله بدل انتقاد أوضاعه. هذا مكمن مؤاخذاتي على اليسار التونسي، فهو ليس إيجابيا على الإطلاق، يكتفي بالانتقاد دون أن يطرح بدائل ومشاريع ورؤى.
_ عاد سؤال المثقف ليطرح نفسه مع موجة الربيع العربي. أليس من العسف تحميل المثقف أكثر مما يحتمل بمطالبته بالفعل خارج مجال تخصصه (الكتابة الإبداع)، هو الذي دفع ثمن مواقفه النقدية من السلطة؟
_ _ بعد انهيار نظام بن علي ظن أغلب المثقفين أنه من الضروري أن ينتسبوا إلى الأحزاب معتقدين أنها ستوفر لهم إمكانية العمل والنشاط والتأثير، ومنهم من كان مع نظام بن علي، أنا لست ضد هذا، لكن ضد أن ينقلبوا عليه ويركبوا الموجة ويتصوروا أنهم كانوا مظلومين وينسبوا إلى نفسهم بطولات ثورية كما فعل كثيرون يحتلون اليوم مراكز ثقافية. ما أومن به هو أن السياسي هو الذي يأتي إلى المثقف وليس العكس، وأن هذا الأخير مطالب بالحفاظ على استقلاليته، والإدلاء بأفكاره وآرائه وموقفه تجاه الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولكن انطلاقا من موقعه كمثقف وليس كسياسي. ما حدث هو أن هؤلاء المثقفين بانتمائهم إلى الأحزاب صارت هذه الأخيرة تستعملهم بحسب أغراضها. لقد بقيت ضمن النفر القليل من المثقفين المستقلين، ولم أنخرط في الجوقة الثورجية. هم يتهمون هذه الفئة القليلة بأنها مع نظام بن علي، وهذا تصنيف مضحك يطلقه أناس لا علاقة لهم بالواقع ويكتفون باتهام الآخرين دون معرفة حقيقة أفكارهم، وأنا أعرف كثيرين منهم لم يقرأوا لي كتابا واحدا. هم جهلة ويحبون جهلهم ويعيشون فيه كأنما يعيشون في نعيم مستديم. أنا مثقف مستقل، وعندما أتكلم عن واقع بلادي أفعل ذلك من موقعي هذا، لذلك أنا أدين الإسلامويين وما قاموا به من جرائم تجاه بلادي لن تنسى ولن تغتفر، ما قام به الإسلاميون في السنوات الخمس الماضية لم يقع في تاريخ تونس منذ أمد بعيد. الإسلاميون وزعيمهم راشد الغنوشي لا يحبون تونس، ويتعاملون مع تونس وكأنها بلد محتل من أجل مصالحهم، وما فعلوه بالخزانة حيث قدموا تعويضات مادية ضخمة لعناصرهم المتهمة بارتكاب جرائم ضد الأمن العام، هؤلاء اليوم أصبحوا طبقة جديدة في تونس، يتمتعون برخاء مادي كبير، يتعللون بأنهم كانوا في السجون، هذه مشكلتهم، والمناضل الحقيقي لا يقبل أن يأخذ تعويضات كثمن لنضاله، هم يدعون أنهم يريدون بناء الدولة، لكن ما فعلوه بالخزانة العامة يبين أنهم لا يريدون إلا استغلال الدولة إلى أن يصبح حليبها دما. كما لن يغفر التاريخ لليساريين، الذين استعملوا الشعارات ليوهموا الناس أنهم يخدمون البلاد، الديماغوجية والشعبوية أخطر من المؤامرة على البلاد، من يسمون اليوم زعماء الأحزاب اليسارية أعرفهم جيدا، فقد درسوا معي في الجامعة وأعرفهم مستواهم الثقافي وانتهازيتهم، لذلك أصبحوا من أغنياء تونس فقط بالشعارات الفارغة وبتدمير الدولة، وقد وضعوا تونس في نفق مظلم لا ندري كيف نخرج منه.
_ ما الذي جعل تونس تنفلت من العنف الدموي، الذي طال بلدان الربيع العربي الأخرى؟
_ _ أرى أن تراثنا الإصلاحي ترك ما يحمينا من كل هذا. اليوم نواجه كمجتمع مدني الإسلامويين والشعبويين والفوضى. فالمجتمع المدني بقيادرة المرأة التونسية هو الذي أخرج الإسلامويين من الحكم وأسقط حكومة الترويكا. لكن إلى أي حد يقدر المجتمع المدني على البقاء. هو الآن مهدد بسبب كثرة المافيات والأحزاب، التي تفتته وتسهل لأي قوة فوضوية في المستقبل الهيمنة على البلاد، وهذا ما حدث في كثير من بلدان العالم الثالث مثل العراق وسوريا ودول أفريقية. فعندما تنهار الدولة تظهر القوى الظلامية. صحيح أن المجتمع التونسي لم يزل يمتلك بعض القوة لمواجهة مثل هذه المخاطر، ولكن إلى متى، في ظل سيطرة المتطرفين على النقابات، وكثرة الأحزاب، التي تفوق 100 حزب في مجتمع لا تتعدى ساكنته 11 مليون نسمة وكلها تدعي الديمقراطية، في حين أنها لا تعكس التعدد الحقيقي القائم في المجتمع التونسي.. المجتمع المدني هو صمام الأمان، الذي وقف في وجه التسلط من أيام بورقيبة إلى حكم الإسلامويين، وضعفه سيجعل تونس تقف عارية أمام أعدائها.
_ شكل الدستور التونسي لحظة ضوء متقدمة في الزمن العربي الراهن. إلى أي حد يمثل القوى التقدمية في المجتمع التونسي؟
_ _ الدستور التونسي كذبة كبيرة. الدستور الذي أعددناه في النظام الجمهوري عام 1959 كان رائعا، إنما وقعت فيه تحريفات خطيرة في عهد بورقيبة حيث آل فيه النظام الرئاسي إلى مدى الحياة وهو ما أضر بهذه الوثيقة الدستورية، التي أعدتها النخبة التونسية المتعلمة في أرقى الجامعات الغربية. ثم جاء بن علي وبدأ يتلاعب به للبقاء في الحكم أكبر مدة ممكنة. جاء هؤلاء وقالوا لا بد من دستور جديد، وأنا كنت من الذين نادوا بأننا لسنا في حاجة إلى دستور جديد وإنما إلى إصلاح الدستور القديم، هذا يكلفنا أقل وقت ومال، لكن القوى الإسلاموية، التي تريد ضرب المشروع الإصلاحي التونسي واليساريون معها طالبوا بإعداد دستور جديد وكأن البلاد ستبدأ تاريخها من الصفر، وهذا خطأ جسيم كأنك لا تعترف بكل ما حدث وتلغي التراكم والتجارب والأفكار. عندما نجحت النهضة وجاء الغنوشي طالبوا بسنة فقط لإعداد دستور جديد وأقسموا على ذلك، فإذا بهم يماطلون لمدة ثلاث سنوات والشعب ينزل إلى الشوارع مطالبا بالدستور، والسبب أن من وضعوا لهذا الغرض في المجلس التأسيسي كانوا دون المستوى قانونيا، وقد دفعنا الثمن غاليا من خلال تعطيل الدولة كل هذا الوقت في بلد يعتمد اقتصاده الهش على السياحة، وتحت الضغط الشعبي خرجوا بهذا الدستور مدعين أنه من أفضل الدساتير في العالم العربي، بل في العالم كما قال الغنوشي نفسه وهو يكذب كعادته ويزيف الحقائق.
_ لكن الخارج صفق لهذا الدستور
_ _ دعني أقول لك ماذا يعني هذا الدستور، دعك من موضوع المساواة.. ولنتوقف عند نظام الحكم فيه، كنا من قبل في نظام رئاسي وصرنا اليوم في نظام برلماني، وهذا أس المشاكل، فلا أحد الآن يحكم في البلاد بسبب الدستور، البرلمان عبارة عن جلسات متواصلة وجعجعة بدون طحين، والرئيس محدود الصلاحيات، والأمر نفسه بالنسبة لرئيس الحكومة، وأي واحد يمكنه أن يتدخل في شؤون الدولة، نحن في حاجة إلى دستور قوي يحمي رئاسة الدولة ويخول للرئيس الصلاحيات الكافية لتسيير الدولة من دون أن تعرقل عمله النقابات أو غيرها، هذا الدستور الذي أراد أن يكرس قيم الحرية صار اليوم سبب الإعاقة التي تشل البلاد والمبرر لعدم العمل وضرب هيبة الدولة. نحن نعيش مأساة بسبب هذا الدستور، الذي يبيح تدمير الدولة.
_ كيف تنظر إلى قضية فصل الدعوي عن السياسي، التي أعلنها حزب النهضة في مؤتمره الأخير؟
_ _ أنا لا أثق في مثل هذا الكلام الفارغ، النهضة سيطرت سيطرة تامة على المساجد في جميع أنحاء البلاد، وقد ظهر في السنوات الأخيرة جيش من السلفيين. الغنوشي بعد أن اطمأن أن له جيشا احتياطيا في المساجد قال بالفصل، في حين لم يكن هذا الأمر متاحا له أيام بن علي. ثم الغنوشي يقول دوما كلاما ويتصرف بشكل آخر. وكمثال هناك إمام قام بإدانة إرسال الشباب التونسي المتطرف إلى جبهات القتال، فتم التحقيق معه وعزل من عمله بتدخل من الغنوشي. فوزير الشؤون الدينية هو واحد منهم وإليهم، ويدافع عن مخططهم الإجرامي. أليس حديث الغنوشي عن فصل الدعوي عن السياسي إقرار برؤية بورقيبة وبأن الدين لا يتدخل في شؤون السياسة. أنا أرى أن الأمر لا يعدو كونه مبررا للبقاء في المشهد السياسي وفخا ينصب للشعب التونسي، ومثل هذا الكلام ليس بجديد على النهضة المعروفة بالتمويه وتزييف الحقائق، فهي تدعي شيئا وتفعل شيئا آخر. والخطاب المزدوج عودنا عليه الغنوشي منذ السبعينات.
_ أنت دائم الحضور بالمغرب ولديك هنا صداقات كثيرة وتعرف البلاد. كيف تنظر كمثقف تونسي إلى الحراك الاجتماعي المغربي ومآلاته؟ وهل هناك فعلا استثناء مغربي؟
_ _ المغرب كان دائما استثناء. الاستثناء الأول كان في الستينيات عندما قامت عدة ثورات أرست أنظمة جمهورية على أساس أنها ستضمن للبلدان العربية التخلص من الاستبداد والمظالم، وهذا ما حدث في مصر والعراق وليبيا مثلا، التي تخلصت من الأنظمة الملكية، وقد تبين مع الوقت أن هذه كذبة، فالتخلص من النظام الملكي ربما يفتت الوحدة الوطنية، ويجعل من النظام العسكري أسوأ ما يمكن أن يتهدد مجتمعا ما. هكذا استطاع المغرب أن يحتفظ على النظام الملكي في فترة صعبة هي الحرب الباردة، التي فتتت أنظمة كثيرة عبر العالم وأعادت صياغة الخريطة على أسس جديدة، لأجل ذلك دفع المغرب الثمن غاليا. لقد كان النظام الملكي مضطرا لأن يواجه انقلابات عسكرية وأفشلها، كما واجه قوة أخرى كانت تستهدفه كنظام هي اليسار، وقد كان قاسيا في مواجهته هذه القوى بشدة، لكن النتيجة النهائية، على الأقل كانت إيجابية. الاستثناء الثاني تمثل في أن الحسن الثاني قبل وفاته بقليل جاءه نوع من اليقظة فضمن لابنه مرورا سلسا للحكم من خلال إدخاله الاشتراكيين إلى الحكم ودشن عملية ديموقراطية يقر بها التاريخ. الديمقراطية بدأت في أواخر عهد الحسن الثاني حين أخرج المساجين السياسيين وعرف الواقع المغربي دينامية سياسية جديدة وظهرت صحف مستقلة مما أدى إلى التخفيف من الأزمة وخلق انفراجا في الأجواء وامتص الغضب الشعبي وهيأ أرضية صلبة لمحمد السادس، الذي عمل إصلاحات كثيرة. لما جاءت موجة الربيع العربي كان المغرب من ضمن البلدان المستهدفة، وأنا كنت هنا في الدار البيضاء عندما نزلت عشرين فبراير إلى الشارع، وقد استطاع المغرب بحكمة أن يتجاوز الأزمة ويخفف قوة الضغط. أنا أنظر الآن إلى الإنجازات التي حققها المغرب وهي كثيرة، وهو محافظ على وحدته الترابية والوطنية، وهناك بنية تحتية رائعة سمح لي تجولي الدائم في المغرب أن أعاينها عن قرب، ما أتمناه أن يواصل المغرب العمل ما بدأه في إرساء النظام الملكي الدستوري، الذي عبر جرعات يمكنه أن يحقق الديمقراطية المنشودة. وعلى الذين ينظرون إلى الأمور من منظور سلبي أن يقرأوا الواقع ويقروا بأنهم في مأمن من الهزات العنيفة، التي تعصف بالجميع وتسقط السقف على الكل. لينظروا إلى المغرب كم صار مختلفا من التسعينيات إلى الآن، هناك طبعا مشاكل وأشياء لا بد أن تزول لكنها لا تبلغ إلى مستوى التصدعات، التي تهدد البلد.
_ استطاعت الرواية المغاربية الآن فرض نفسها على المشرق بالتراكم، الذي حققته، وصارت رقما صعبا في معادلة الجوائز المهمة مثل البوكر وسواها. كيف تنظر إلى هذا التطور؟
_ _ أولا أنا أرفض الارتكاز إلى الجوائز لتقييم الأعمال الروائية، لا البوكر ولا غيرها. الكثير من الروايات الفائزة بالبوكر عندما ترجمت إلى لغات أجنبية لم تلق أي نجاح. وأغلب روايات البوكر هي هكذا. قليلة هي الأعمال، التي لقيت نوعا من الصدى. اعطنا رواية واحدة فازت بالبوكر ولقيت صدى في أي بلد غربي. هذا من ناحية الجوائز كمعيار للتقييم. من جهة ثانية أتفق معك، هناك فعلا فوران في الإنتاج الروائي في الجزائر والمغرب وتونس وليبيا، ولكن أنا أكره التهافت. الكل يريد أن يصبح روائيا بالقوة، هذا التعجل والتهافت على كتابة الرواية ربما سيضر بها. والطمع في نيل الجوائز دفع الكثيرين إلى استسهال كتابة الرواية، وبنفس العناصر والمواصفات والثيمات، الجنس والدين… هذه ليست مواصفات لكتابة الرواية، فالروائيون الكبار يفكرون في البناء، والعالم الروائي يتغذى من فنون كثيرة مثل السينما والشعر، الذي يقوم بتجديد اللغة… لذلك أنا مع التفكير في العمل الفني والبناء وليس في الجوائز والأطماع المادية. ما أقر به أن هناك فعلا تجارب روائية جيدة، وقد اطلعت مؤخرا على شباب دون سن العشرين يكتبون أشياء رائعة، وأظن أنهم بعد عشر سنوات سيقولون كلمتهم ويكون لهم حضور في المشهد الروائي العربي. أنا مع الكتابة الجيدة أينما كانت، في الخليج أو موريتانيا. من كان يظن أن الطيب صالح سيطلع في الستينيات من السودان في وقت كان يهيمن فيه نجيب محفوظ على المشهد الروائي العربي. وهذه قيمة الإبداع، الذي لا يرتبط بمكان أو دولة معينة. ومن إيجابيات التراكم، الذي أشرت إليه أن الرواية صارت شكلا متداولا في بلدان مثل الكويت الإمارات وغيرهما، وفي المغرب فقد كان ثمة منذ زمن بعيد محمد شكري ومحمد زفزاف بالإضافة إلى روائيين مهمين جدا باللغة الفرنسية.
_ يلاحظ عودة قوية للرواية “الواقعية”. هل يتعلق الأمر بوعي الكتاب بطبيعة مجتمعاتهم وبأن اللحظة الثقافية الراهنة تستدعي التمثيل أكثر من التجريب؟
_ _ الرواية التجريبية انتهت، وأنا ضد هذا النوع. هي جاءت وذهبت دون أن تترك أثرا. حتى في فرنسا، التي ولد فيها هذا الشكل من الرواية لم يعد للتجريب من صدى. ثمة قولة لكافكا يقول فيها “الواقعي عجيب”. نحن غير مجبرين على التخيل لأن الواقع مليء بالعجائب والغرائب، فقط علينا أن ننتبه إلى هذا. هناك قصص كثيرة لي انطلقت فيها من الواقع المعيش. وفي السياق نفسه يقول مخرج أوكراني نسيت اسمه “أنت تستطيع أن ترى ألق النجوم في كتلة من الطين”. فالواقع لسنا في حاجة إلى تخيله وإنما نحتاج إلى كيفية كتابته. الكثير من الروائيين الأمريكيين اليوم ينطلقون من الواقع اليومي. “على الطريق” لجاك كيرواك صارت اليوم من الكلاسيكيات، وهي نموذج حي لهذه الواقعية العميقة. حتى رواية “أوليسيس” لجيمس جويس تدور في يوم واحد ولكنها مليئة بفنطازيا مدينة بكاملها حيث اللعبة الفنية كامنة في معمار الرواية.
_ تقترب كثيرا في كتابتك من محمد شكري حيث يشكل سجل الذات نقطة الارتكاز والقوة في نصوصك، إلى أي حد تستطيع التجربة الشخصية أن تعيد الحياة إلى الكتابة وتمنحها قدرة على التأثير؟
_ _ في بداية تطلعي جئت إلى المغرب في الثمانينيات ومن أول وهلة أعجبت به، لأني وجدت به كتابا مجددين ويستجيبون إلى مطامحي. مثلا محمد شكري ومحمد زفزاف وإدريس الخوري، الذي كتب نصوصا عن الواقع المعيش، الذي كنا نحكي عنه من أروع ما يكون. وقد عشت مع محمد شكري كصديق سنوات طويلة، وأجريت معه حوارات وتحدثت معه عن الأدب العالمي لساعات طويلة لو سجلتها لأعطت كتابا رائعا، وكنا نلتقي في حب الكثير من الكتب والكتاب أبرزهم هنري ميللر، الذي أرى أننا معا نقترب منه. ثم هناك الكاتب الإيطالي مالابارتي، الذي حكى عن أهوال الحرب العالمية الثانية، وعندما كتبت “أشواك وياسمين” كان حاضرا في ذهني أكثر من أي كاتب آخر على اعتبار أنه هو أيضا كتاب التاريخ بصورة روائية.
_ منذ وقت طويل وأنت تكتب بورتريهات لكتاب عالميين، هل يتعلق الأمر بولع خاص أن بعمل صحافي تمتهنه؟
_ _ أنا مغرم بالبورتريه رغم غيابه في العالم العربي، رغم أن أدبنا العربي القديم غني بهذا الشكل من الكتابة.. كتاب الأغاني وكتب الجاحظ ومعجم الأدباء والفهرست لابن النديم وكتب الطبقات تجد فيها سيرا رائعة ومؤلفات طه حسين والعقاد أيضا. لذلك فثقافتنا غنية بالبورتريه، الذي لم يعد موجودا بداية من السبعينيات، لذلك اهتممت به من منطلق إحياء هذا الفن، خاصة وأن الصحافة والعالم الغربي يعلماننا كتابة البورتريه، وقد كتبت آخر بورتريه عن شاعر أخاف منه هو إزرا باوند، وهو شاعر مخيف كان يسمى البركان المتوحد بنفسه لأنه أثر في الثقافة الأوروبية، وقد كلفني الكتابة عنه جهدا كبيرا لأنه أحد مفاتيح الثقافة الأوروبية الحديثة. وقد جمعت البورتريهات التي كتبتها عن الشعراء في كتاب سيصدر قريبا سميته “ذهب القرن العشرين”، ولدي أيضا بورتريهات لناثرين كبار مثل غوته وهنري ميللر وفرجينيا وولف وفوكنر وقد أصدرت مؤخرا كتابا عن جيمس جويس من خلال رسائله مع إزرا باوند وزيارتي لقبره في زوريخ استرجعت فيها الكثير من فترات حياته ويضم الكتاب الحامل لاسم “جيمس جويس في منافيه” ترجمة لحوار مطول كان يجريه معه رسام إيرلندي لما كان هو بباريس، ولم يكن يعلمه بذلك، كان يجلس معه في البارات والمطاعم ويدون ما يسمع منه. فمن المهم العمل على جبهات متعددة