خطأ صغير في الحساب أفسد الطبخة كلها. صار على الجميع أن يعيدوا النظر في تقديراتهم وحساباتهم.
بعد كل ما قيل عن حرب الفلوجة شوهد رتل من مئات السيارات وهو يغادر تلك المدينة التي محيت. مر ذلك الرتل بسلام من غير أن تعترضه الحواجز العسكرية العراقية التي كانت موجودة في طريقه. كاد الحدث أن يُطوى لولا أن مسلحي عشيرة البو عيسى وهي واحدة من عشائر الأنبار تصدوا لذلك الرتل المغادر بمقاتلي داعش واوقعوا فيه عددا من الخسائر وهو دفع بأفراد الرتل أن يعلنوا مضطرين من خلال مكبرات الصوت أن خروجهم بتلك الطريقة تم وفق اتفاق مسبق.
كان الخطأ الصغير يكمن في عدم ابلاغ تلك العشيرة بصفقة الخيانة التي تواطأ الجميع على تمريرها، لتذهب بعدها داعش إلى مكان آمن، من خلاله تستطيع ممارسة ارهابها بطريقة أخرى.
بالتأكيد كانت طريق الرتل مرسومة بشكل واضح. وهي تؤدي كما أتوقع إلى المكان الذي يكون فيه نقل مقاتلي داعش بالطائرات ممكنا.
داعش كان هنا وغدا سيكون في مكان آخر.
اما القيامة التي وقعت في الفلوجة فلا شأن لأحد بها.
مهندسو الحرب الطائفية لا يعنيهم مصير داعش بقدر ما يعنيهم أن الفلوجة صارت أرضا خرابا، ولم يعد في إمكان أهلها العودة إليها.
تلك النتيجة المأساوية تلقي بظلالها على سؤال مهم ستتم التعمية عليه ولن يجيب عليه أحد وهو "مَن هي الجهة الآخرى التي وقعت الاتفاق مع داعش؟"
ذلك الاتفاق الذي التزمت به القوات العراقية ومسلحو العشائر لم يُعقد لأن مقاتلي داعش عرضوا استسلامهم مقابل سلامتهم. في حالة من ذلك النوع كان يجب وفق قوانين الحرب أن يكونوا أسرى لا أن يخرجوا من المدينة معززين، مكرمين، كما لو أنهم أنهوا مهمة نبيلة، يستحقون عليها الشكر.
السؤال المحرج للجميع هو "إلى أين توجه مقاتلو داعش بعد أن توقف القتال الخطأ؟"
لن يوهم أحد نفسه بالحصول على إجابة شافية.
ما جرى لم يكن صفقة بين طرفين متكافئين. وخروج مقاتلي داعش من الفلوجة بعد أيام من اعلان الحكومة العراقية عن تحريرها يضعنا في قلب تلك المسألة الغامضة.
ولو عدنا سنتين إلى الوراء لرأينا تنظيم داعش وهو يزحف مطمئنا ليحتل ثلث مساحة العراق ويسيطر على مدن حيوية، أتهم سكانها علنا وضمنا بالخيانة حين وفروا من وجهة نظر الحكومة الحاضنة للتنظيم الإرهابي.
دخل داعش إلى تلك المدن بسلاسة وها هو يغادر الفلوجة بالسلاسة نفسها لولا ذلك الخطأ الصغير الذي فتح الأبواب على الفضيحة.
وهو ما يعني أن مَن أدخل داعش براحة هو من نظم له سبل الخروج الآمن.
في سياق تلك المعطيات فإن كل ما كتب وكل ما قيل عن صلة داعش بالمجتمعات المحلية وثقافتها الدينية الراسخة هو نوع من التأويل لحقيقة ناقصة. وهو ما يمكن أن يعتبر مساهمة غير مقصودة في التضليل والضياع في دروب متاهات، لن يعثر سالكوها على معلومة واحدة مؤكدة يمكنها أن تعينهم على معرفة طبيعة وهوية ذلك التنظيم الاجرامي الذي فتك بالمدن العراقية ذات الأغلبية السنية.
بعد تلك الواقعة التي ستمر كما أتوقع سيكون علينا أن نعيد النظر في كل ما اعتبرناه بديهيا من أفكار تتعلق بذلك التنظيم المتوحش.
فالخلاصة التي تؤكد أن داعش ليس صناعة محلية من شأنها أن تفتح باب التفكير في تلك الآلة الجهنمية التي أنتجته بمهارة ودقة وانسيابية، بحيث استطاع في وقت قياسي أن يحتوي في صفوفه الكثير من الشباب من خلال دعايته المضللة.
ما يهم هنا أن تكون تلك الخلاصة نافعة على مستوى فك الارتباط بين تنظيم داعش وأشباهه من التنظيمات والجماعات الدينية المتطرفة والظاهرة الدينية.
فداعش الذي هو شركة أمنية يديرها مقاولون مرتزقة ليس من الدين في شيء. وهو ما يجب أن تعلمه المؤسسات الدينية التي لا تزال تتردد في تكفير داعش.
فاروق يوسف