يكتب كثير من صحفيينا، والمهتمين بالشأن الجزائري، أو من يتصدون إليه للضرورة، سواء في المغرب أو فرنسا أو حتى الجزائر نفسها، بطريقة توحي وكأن الفريق “توفيق” لا زال في عز جبروت التسعينيات، أو أن الساكن في قصر المرادية هو الرئيس هواري بومدين وليس عبد العزيز بوتفليقة. صور نمطية تتكرر بشكل أو بآخر منذ السبعينيات، دون أن يهتم أحد بمحاولة اختبار مدى صلاحية هذه المفاهيم والتعميمات، أو استكشاف ما يمكن تسميته “الثابت والمتغير” في بنية النظام الجزائري نفسه، وبالتبعية، مواقفه السياسية وعقيدته الأمنية، وعلى رأسها موقفه من الجار الشقيق، المغرب.
ويمكن القول، أن النظام الجزائري المغلق على الطريقة السوفييتية، وتغول المؤسستين العسكرية والأمنية، مسؤولان بشكل كبير عن هذا الاجترار غير العلمي للصور والمواقف، كما أن تغير أجيال القيادة السياسية والعسكرية والأمنية في الجزائر لم يستتبعه تغير واضح وملموس في مواقف النظام العدائية تجاه المغرب، اللهم باستثناء بعض الدفء الذي بثته أجواء قيام “اتحاد المغرب العربي”، والذي سرعان ما وأده الانقلاب العسكري الأمني على الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد. مواقف سرعان ما عبرت عن نفسها في حادثة فندق “أطلس أسني” الإرهابية، وما تلاها من تبعات سيئة على علاقة البلدين على مختلف الأصعدة. لكن بالمقابل، فاستسهال اجترار المواقف العدائية النمطية عند وسائل إعلام البلدين، لا يراعي بديهة، منهج الحكم الجديد الذي جاء به الملك محمد السادس، الذي لا يترك مناسبة إلا وأعلن فيها تمسكه الشديد بوحدة المغرب الكبير، كما يغفل أن العام الذي ودعناه كان مثقلا بأحداث مزلزلة على صعيد النظام الجزائري، ليس أقلها، إقالة “رب الدزاير” من منصبه، وتفكيك امبراطوريته الأمنية، ناهيك عن حالة الفراغ المريع في قصر المرادية، والتي تجعل رؤساء الأحزاب الجزائرية أنفسهم لا يعرفون يقينا إن كان رئيسهم على قيد الحياة أم لا، بعد أن استيأسوا من صلاحيته وقدرته على الحكم.
نسوق هذه المقدمة، ونحن نراقب تطورات الوضع على صعيد جبهة البوليساريو، محاولين قراءة “تاريخ انتهاء صلاحيتها” الذي محته كثرة الأيادي التي تداولت على توجيه دفة الأمور داخلها من طرف ضباط المخابرات والمسؤولين الجزائريين على مدى أربعة عقود. نقول ذلك وكلنا يقين أن صلاحيتها قد انتهت بالنسبة لصانعيها وواضعي أجندتها منذ زمن بعيد، ولا يمنع الإعلان عن ذلك سوى اختلاف من تبقى مؤثرا في أروقة الحكم في الجزائر على طريقة التصريح بالوفاة والدفن، وما إذا كان يمكن مساومة المغرب على جثتها حتى لا يكون موتها بدون أثر كما كانت حياتها، منذ بداية التسعينيات على الأقل.
إن وفاة محمد عبد العزيز، ربما قربت لحظة تبلور قناعة شاملة لدى مختلف الفرقاء في أروقة الحكم في الجزائر، بأن هذه الجبهة التي اصطنعت لمعاندة الوحدة الترابية للمغرب قد تحولت، أو تكاد، إلى عبء يخلو من المنافع على النظام والدولة الجزائرية، ولا يتبقى سوى إعلان وفاة الرئيس الغائب عن المشهد عبد العزيز بوتفليقة، من أجل الحسم باتجاه مصيرها، تبعا لموازين القوى التي ستنشأ إثر هذه الوفاة. نقول أنها تحولت إلى عبء، مراعين الاعتبارات التالية:
- لم تكن جبهة البوليساريو يوما، ولن تكون مستقبلا، عنصر حسم عسكري في أي صراع مع المغرب. نفس العجز يتبدى في إدائها السياسي ومحدودية هامش المناورة أمامها بعد تقدم المغرب بمبادرة الحكم الذاتي للأقليم الجنوبية، في نطاق الجهوية الموسعة في المملكة. محدودية تترجم في استمرار نزيف “الدول” التي تعترف بجمهورية الوهم الصحراوية، على هامشية معظمها، مقابل استمرار المغرب في تحقيق الانتصارات الدبلوماسية. وما خلافه مع الأمين العام الأممي بان كي مون، إلا دليلا على مدى ما يمتلكه المغرب من قوة وثقة بعدالة قضيته والتفاف المغاربة حولها.
- رائحة فضائح مسؤوليها تملأ التقارير الدولية، وآخرها فضيحة بيع المساعدات الإنسانية الأوروبية الموجهة لمخيمات الاحتجاز في تيندوف والحمادة، وقبلها ثبوت ارتباط مسؤوليها بشبكات الجريمة المنظمة والإرهاب الدولي العابر للصحراء الكبرى، وهو ما ينعكس عبئا على حماتها الجزائريين.
- ارتخاء قبضتها الأمنية في المخيمات، والنزيف المستمر لرصيدها من الرعب في أوساط الصحراويين، الذين أصبحت أعداد المحتجين منهم على أوضاعهم الإنسانية المزرية تتزايد باضطراد يوميا. وبالتالي، فمن شأن أي انفجار تخرج أنباؤه عن السيطرة، أن يقوض في لحظات ما بنته الاستخبارات الجزائرية في عقود، ويضطرون بالتالي للتدخل السافر والمباشر لقمع توق مواطنين إلى الاتحاق بأهلهم ووطنهم.
- التململ المتزايد للرأي العام الجزائري الذي يعيش ضائقة اقتصادية واجتماعية خانقة، والذي لم يؤمن يوما بحقيقة “نضال الشعب الصحراوي من أجل حق تقرير المصير”. تململ عكس نفسه في تصريح نادر لواحد من كبار المطلعين على ما يجري داخل دوائر الحكم في الجزائر، ونقصد عمار سعداني، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، الذي تجرأ وصرّح –وهو لا يصرح عادة دون إيعاز مباشر أو مبطن ممن بيدهم خيوط اللعبة- أن لديه معلومات في موضوع البوليساريو “لو قالها لخرج الجزائريون إلى الشوارع”!! وهي واحدة من أقوى بالونات الاختبار والمؤشرات، التي تنبه للتحولات الجارية داخل أطراف الحكم الجزائري.
- غياب المهندس والحامي، الفريق توفيق، ومن ورائه جهاز مخابراته، والاستعاضة عنه بجهاز أصغر محدود المهام. معطى وجد صداه في الإقالة المباشرة للجنرال محفوظ الملقب “بالجنرال بوليساريو” بعد رئيسه مباشرة في سبتمبر الماضي.
- تقلص قدرة الموازنة الجزائرية على الاستمرار في الصرف اللامحدود على البوليساريو، والأهم، الإنفاق على شراء المواقف والذمم في أوساط الرأي العام العالمي. إن بلدا سيعود للاستدانة قريبا، لن يقوى على تبرير وضمان الإنفاق الباذخ الذي كان سابقا، لاسيما مع انعدام الجدوى.
- أخيرا وليس أخرا، عدم قدرة الدبلوماسية الجزائرية على الامتناع للأبد عن الاستجابة للمطالبات الدولية بإدخال بعثات تقصي الحقائق وحقوق الإنسان، وتحديدا المطلب الأهم المتعلق بإحصاء محتجزي البوليساريو. امتناع يحرج الدولة الجزائرية برمتها دون أن يستطيع أحد وضع حد له.
قد يروج البعض، ممن يعتقدون أن الجنرال خالد نزار وأصحابه الستة لا يزالون يحتلون مقاعد التحكم في قيادة الأركان، للرأي الكلاسيكي المتهافت، القائل باحتمال اختيار الجيش في الجزائر الهروب للأمام، وبالتالي تشجيع البوليساريو على الدخول في مغامرة عسكرية مع المغرب، يمكن أن يدخل فيها الجيش نفسه بدرجة معينة. هذا القول وإن صادف بعض التطبيق في سبعينيات القرن الماضي وقبلها، في هذا البلد أو ذاك، تنفيه وقائع وقرائن وحجج تستعصي على الحصر، أهمها:
- انشغال الجيش بمحاولة تأمين جبهة شاسعة تمتد على آلاف الكيلومترات، من أنشطة الإرهاب العابر للقارات، القادم من ليبيا وتونس والنيجر ومالي، والمتحرك عبر مختلف مناطق الصحراء الكبرى، يمنعه منطقيا من محاولة إشعال الحدود الهادئة والمنضبطة الوحيدة لديه مع المغرب.
- أزمة النظام الجزائري هي ليست أزمة للجيش الجزائري، وما الأحداث التي شهدناها على مدى عام، إلا تأكيد لهذه الحقيقة، حيث يقاوم الجيش وبشدة محاولات جره إلى مستنقعات هنا وهناك بحجج متنوعة من قبل أطراف يعرفها داخل مؤسسة الرئاسة وارتباطاتها، وما مثال العنف الطائفي في غرداية، والتسخين الحاصل على جبهة منطقة القبايل عنا ببعيد.
- تحول مركز الثقل في المؤسسة العسكرية الجزائرية من جهاز المخابرات الذي هيمن عليه الفريق توفيق لأكثر من عقدين ونصف، إلى هيئة الأركان برئاسة الفريق أحمد قايد صالح، وهو ما يعني بالضرورة تبدل المقاربات والرؤى لطريقة التعامل مع البوليساريو وقضيتها.
- الكلفة العالية، غير مأمونة العواقب لأي تسخين عسكري جزائري تجاه المغرب، دون امتلاك وهم القدرة على إحداث تغير حقيقي في الوقائع على الأرض، إذ لا نتوقع وجود “مجنون” في هيئة الأركان يجرؤ على الحلم بقدرة البوليساريو على هزيمة الجيش المغربي “وتحرير الصحراء”!!
- صعوبة تفهم القوى الدولية المؤثرة لأية دوافع يمكن أن تساق لتبرير أي تسخين عسكري في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
بناء على ما تقدم، نرى أن الاحتمال الأقرب إلى الصواب، وبمجرد اتضاح هوية خلف الرئيس الغائب عبد العزيز بوتفليقة، أن يتّبع المتنفذون في الجزائر نفس السلوك الذي تتبعه جميع الأجهزة في التعامل مع مرتزقتها وعملائها بعد أن ينتهي تاريخ صلاحيتهم: التصفية. إن تجارب العالم المتعددة والتي لم تشذ عنها حالة واحدة، تقول بلجوء المشغل إلى تصفية العملاء الذين يشيخون جسديا، لدفن أسرارهم معهم، إو وضعهم في سجن الإقامة الجبرية في منازل فخمة، بطريقة تصفيهم بشكل أكثر احتراما، ولا نعتقد أن عملاء البوليساريو سيحظون بمثل هذا التشريف.
وعليه، نعتقد أن كثيرين ممن تبقوا في مراكز القرار في البوليساريو، يفكرون مليا في لحظات الفوضى هذه، آخذين في الاعتبار ما تنبهنا له، وربما اقتربت الساعة التي يعترفون فيها في قرارة أنفسهم، بأن أأمن مكان يستطيع أن يداري سوأتهم هو “الوطن الغفور الرحيم”: المغرب. ولن نفاجأ بتاتا، عندما نستيقظ قريبا على قصاصات الأنباء التي ستنقل خبر التحاق هذا المسؤول أو ذاك في قيادة البوليساريو بأرض الوطن. ألم يختر زعيمهم أن يدفن في المغرب، في خطوة رمزية تشي بعدم وجود أرض جزائرية تستطيع ضم رفاته؟! لنراقب ونرى..
حفيظ بوقرة.