إذا لم تكن من مواطني المغرب أو الجزائر، فإنك حتمًا تساءلت يومًا عن سر العداء العجيب الذي يجمع البلدين حكومة وشعبًا، هذه المقالة قد تساعدك في تنويرك ببعض الفهم.
قبل الإسهاب في عرض الموضوع، نحب أن نشير إلى أن الكتابة في الأزمة المغربية الجزائرية تشبه المشي في حقل من الألغام، ليس فقط لقلة المصادر الموثوقة الموثقة، ولكن أيضًا للحساسية السياسية الشديدة التي يكتسيها الموضوع، ولذلك سنقتصر على أهم مفاصل القضية، دون الخوض في التفاصيل.
يعتبر النزاع المغربي الجزائري من أطول النزاعات بين الدول المتجاورة في العالم، تستخدم فيه الأدوات السياسية والإعلامية والمالية والمخابراتية، تعود أسبابه لعوامل تاريخية جغرافية وسياسية، ويبدو أن هذه الحرب الباردة بينهما مستمرة في ظل غياب أي مؤشرات جدية لإنهاء الصراع.
الحدود مغلقة بين البلدين منذ ما يزيد عن 20 سنة، حيث وقع انفجار بفندق أطلس آسني بمدينة مراكش سنة 1994، اتهم المغرب حينئذ الجزائر بالتورط في ذلك، ما جعله يفرض التأشيرة على مواطنيها، الأخيرة لم تتأخر في الرد فأغلقت الحدود مباشرة، منذ تلك الفترة والأحداث الاستفزازية والاتهامات المتبادلة بينهما لم تتوقف حتى الآن، بدءًا من تهريب المخدرات وقنص المواطنين وتدنيس الأعلام ودعم المناطق المتوترة بالبلدين.
ورغم كل محاولات الصلح فقد باءت بالفشل، نظرًا لتجذر الأسباب المحركة للصراع وتبطنها، والتي تؤدي إلى توليد أسباب أخرى للنزاع بدورها، مما يدخل البلدين في حلقة مفرغة لا نهاية لها.
أسباب الصراع تاريخية جغرافية سياسية
بدأت قصة النزاع المغربي الجزائري، في الواقع، منذ العهد الاستعماري الفرنسي، حيث لم يكن هناك رسم للحدود بشكل دقيق وكامل بين البلدين المتجاورين، ولم تكن فرنسا معنية بذلك إلا بعد اكتشاف حقول من النفط ومناجم حديد في المنطقة الحدودية، إذ أعادت ترسيم الحدود بإدخالها كل من “الحاسي البيض” و”كولومب بشار” ضمن المقاطعة الفرنسية للجزائر آنذاك.
بعد استقلال المغرب سنة 1956، واستقلال الجزائر سنة 1962، طالب المغرب باسترجاع سيادته على المنطقتين، بالإضافة إلى مناطق أخرى كانت تعود لمغرب قبل الاستعمار مستندًا في ذلك إلى خارطة المغرب الكبير التي نشرها حزب الاستقلال المغربي في 7 يوليو 1956، لكن الجزائر رفضت الطلب، ودعت إلى عدم المساس بالحدود التي رسمها الاستعمار الفرنسي بالاستناد إلى مؤتمر باندوق المنعقد في 1956.
أمام هذا الواقع المتوتر ازداد التصعيد بالمناطق الحدودية بين البلدين إلى أن اندلعت مناوشات في ضواحي تندوف وحاسي بيضة وفكيك، تحولت بسرعة إلى حرب ضروس في أكتوبر من عام 1963، سميت بحرب الرمال، تكبد فيها الطرفان خسائر مادية وبشرية كبيرة، لتنتهي هذه الحرب “السوداء في تاريخ البلدين” بتدخل منظمة الوحدة الأفريقية، التي أرست اتفاق وقف إطلاق النار بينهما في 20 فبراير 1964.
بدءًا من هذه المرحلة بدأ العداء بين البلدين العربيين الجارين والذي ما زال ساريًا حتى الآن، ليتخذ الصراع بعد ذلك صورًا وأشكالًا أخرى غير العسكرية.
تمت اتفاقية تقسيم الحدود بين البلدين في 15 يوليو 1972، بين الرئيس الجزائري هواري بومدين والملك المغربي آنذاك الحسن الثاني، إلا أن هذا الأمر لم يعنِ انتهاء العداء.
بعد إعلان تكوين جبهة البوليساريو سنة 1973، التي تدعو إلى استقلال منطقة الصحراء المغربية بالجنوب، كدولة مستقلة، قامت الجزائر – بالإضافة إلى دول أخرى- بدعم الجبهة عسكريًّا ولوجستيكيًّا في قتالها مع القوات المغربية في نهاية السبعينيات، الشيء الذي أدى بالجيش المغربي، بعد دحره قوات البوليساريو بعد عناء، في عام 1980 إلى بناء جدار أمني استمر تشييده مدة 7 سنوات، يمتد على طول الحدود الجنوبية بين البلدين الجارين.
استمر دعم الجزائر جبهة البوليساريو سياسيًّا ولوجستيكيًّا لحد هذه الساعة، بدعوى “حق تقرير المصير والشرعية الأممية”، الأمر الذي لم يتقبله المغرب واعتبر ذلك وما يزال تآمرًا على وحدته الترابية.
تسبب الخلاف السياسي بين الجزائر والمغرب حول مسألة الصحراء، في فشل كافة محاولات الصلح بين البلدين وتطبيع العلاقات بينهما، وهو ما جعل المغرب يدعو في الآونة الأخيرة الجزائر إلى التفاوض مباشرة لحل قضية الصحراء، لكن الأخيرة ترفض وتقول إنها ليست طرفًا في ذلك النزاع، وإنما تساند الشرعية الأممية حسب قولها.
وكأن حرب الرمال ومسألة الصحراء ليسا سببين كافيين لإشعال النزاع واستمراره بين المغرب والجزائر، ليضاف عامل آخر في السنين الأخيرة، المتمثل في سباق الزعامة بين البلدين.
تعد الجزائر والمغرب قوتين متوازنتين سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، تطمح كل منهما إلى قيادة منطقة شمال أفريقيا، وفي سبيل تحصيل هذه الزعامة، التي ستكسب من وصل إليها مكانة استراتيجية هامة بين الدول، لا يكل أي واحد منهما، من تسخير كل طاقاته الإعلامية والسياسية والمالية والمخابراتية لأجل تلك الزعامة.
ولم يعد غريبًا تصادم المغرب والجزائر في كل المحافل الدولية التي قد تجمعهما، وهو ما لا يخفى على المراقبين، الذين يعلمون بالعداء التاريخي المبطن بينهما.
ويمتد سباق الزعامة هذا إلى ساحات أخرى غير السياسية، فسباق التسلح المحموم بين البلدين يثير الفزع، حيث يصرف كل منهما مليارات الدولارات سنويًّا في شراء الأسلحة، كما أن رحى حرب الزعامة تدور حتى في المعترك الديني، إذ يحاول كل منهما تصدير نموذجه الديني في الخارج، سواء بالبلدان الأفريقية أو البلدان الأوربية.
ساهم في هذا التسابق المحموم حول الزعامة اختلاف طبيعة النظامين السياسيين الحاكمين، حيث نجد في المغرب نظامًا ملكيًّا مع دور مقيد للأحزاب، بينما نجد في الجزائر نظامًا عسكريًّا مخابراتيًّا صرفًا، الشيء الذي أدى إلى محاولة كل منهما لعب دور شرطي المنطقة – ولا سيما فيما يخص ملف الإرهاب- لإكساب نظامه الحاكم شرعية دولية وإقليمية ووطنية أكبر.
وتبقى الأسباب التاريخية المحرك الرئيسي لهذا النزاع بين البلدين، حيث يحرص كل منهما طوال عقود على استغلال نقاط ضعف الآخر من أجل إنهاكه.
النزاع خلف آثارًا كارثية على الشعبين وعلى المنطقة
تسبب الصراع المغربي الجزائري في آثار كارثية على شعبيهما وعلى المنطقة بكاملها.
تشمل الخسائر التي يتكبدها البلدان المتجاوران مستويات عديدة، بدءًا من المستوى الاقتصادي، حيث تعتبر الجزائر والمغرب من أكثر الدول المستوردة للأسلحة في المنطقة شمال أفريقيا، يقتطع كل منهما جزءًا مهمًا من ميزانية الدول من أجل إنفاقها في الأغراض العسكرية؛ تحسبًا لأي حرب قادمة بينهما، تقدر صفقات الأسلحة التي يعقدانها مع الشركات المصنعة للسلاح بمليارات الدولارات سنويًّا.
هذا الإنفوجرافيك يظهر حجم التسابق العسكري بين الجزائر والمغرب:
كانت تلك الأموال الزائدة المخصصة للسلاح ستشغل آلاف الشباب العاطلين عن العمل في البلدين فيما لو أنفقت في مسار التنمية والتشغيل.
تعطيل مسيرة الديمقراطية وحقوق الإنسان بالبلدين – وإن كانت الجزائر أكثر سوءًا مقارنة مع المغرب في هذا المجال- كان أيضًا إحدى مخلفات هذا الصراع الأسود، فلطالما كانت التهديدات الخارجية في جل بلدان العالم مشجبًا تعلق عليه كل الأخطاء والانتهاكات التي تقوم بها الدولة في حق الديمقراطية وحقوق الإنسان، وربما كان البلدان ليحققا تقدمًا ملموسًا في هذا المجال لولا استمرار هذا النزاع بينهما.
لم يعد يقتصر النزاع السياسي المغربي الجزائري بين الأنظمة الحاكمة فقط، بل تعدى ذلك لينتقل العداء إلى الشعبين الشقيقين، يكفي أن تقرأ بعض التعليقات لمنشور أي موقع إلكتروني يذكر خبرًا يتعلق بالبلدين أو أحدهما – حتى لو كان الموضوع هو كرة القدم- لتعرف حجم العداء والتنافر بين مواطني الجارين.
حينما تنحصر الخلافات السياسية بين الأنظمة الحاكمة فقط، فإنه يمكن حل تلك الخلافات ومحاصرتها، لكن عندما يتم إقحام الشعوب في تلك النزاعات، فإن الأمر يصبح خطيرًا بشكل كبير؛ حيث تتجذر ثقافة العداء في المجتمع، ويبدو أن الوضع بين المغرب والجزائر يسير في هذا الاتجاه، خصوصًا مع التحريض الإعلامي المتبادل بينهما، الشيء الذي قد ينبئ بالأسوأ في القادم، ولا يساعد في كل الأحوال على حل المشكلة بين البلدين.
وكان أيضًا مشروع اتحاد المغرب العربي الذي أعلن عنه سنة 1989 أحد ضحايا النزاع المغربي الجزائري ومخلفاته على المنطقة، الشيء الذي حرم البلدان المغاربية من تحقيق ما تتمناه شعوب المنطقة بأكملها، وهو توحيد الدول المغاربية، الأمر الذي كان سيعطي دفعة اقتصادية وسياسية وثقافية مهمة لتلك البلدان.
وما زالت تظهر بين الفينة والأخرى دعوات من قبل شخصيات سياسية، تدعو إلى العمل المشترك المغاربي، خصوصًا بعد تهديدات الجماعات المتطرفة التي تسكن حدود المنطقة، إلا أن الخلاف بين المغرب والجزائر يقف حائلًا دون ذلك.
وفي انتظار حل النزاع بين المغرب والجزائر، فستبقى مشكلة الصحراء دون حسم نهائي، حيث إن الخلاف بين البلدين حال دون طي الملف بشكل كامل، وهو ما جعل العديد من المراقبين يدعون إلى إدخال الجزائر كطرف ثالث، بالإضافة إلى المغرب والبوليساريو، في المفاوضات حول مسألة الصحراء، التي يرعاها المبعوث الأممي كريستوف روس.
ولعل أبرز مخلفات الصراع المغربي الجزائري هو إغلاق الحدود بينهما منذ 20 عامًا، مما سبب مآسي إنسانية بين البلدين الجارين، تجلت في منع تنقل الأفراد والبضائع، على الرغم من أن هناك علاقات اجتماعية واقتصادية راسخة بين ساكنة الجارين.
السيناريو المتوقع هو الاستمرار في الحرب الباردة
في الحقيقة إن الوضع بين المغرب والجزائر يشبه كثيرًا الحرب الباردة في القرن الماضي بين المعسكرين الشرقي والغربي، فرغم أن النزاع لم يتحول، منذ حرب الرمال سنة 1965، إلى صراع عسكري مباشر، إلا أنه يتخذ أشكالًا أخرى غير مباشرة، تشمل مستويات سياسية وإعلامية ودينية ومخابراتية.
ويبدو أن سباق التسلح المتزايد لا يبشر بحل المشكلة، على الأقل على المدى القريب، كما أن كافة محاولات الصلح والهدنة باءت بالفشل، فكلما عزم النظامان الحاكمان على ذلك ظهرت حادثة استفزازية لتعيدهما إلى نقطة الصفر ثانية، مما يفسر وصول وضع النزاع إلى حال من التعقيد وانعدام الثقة بين البلدين الجارين بعد العداء التاريخي المحموم الطويل ذاك.
وفي المقابل، إذا لم يكن هناك أمل في السلم بين الدولتين المتجاورتين على المدى القريب، فإنه يستبعد نشوب حرب عسكرية بينهما، إذ ذلك ليس في صالح أي منهما، خصوصًا مع الأوضاع المتأججة والمحتقنة التي تعيشها المنطقة العربية، وعلى أي حال فلدى كل من المغرب والجزائر مشاكل داخلية عويصة، تغني كل منهما عن الدخول في معركة صفرية.
ويرى باحثون أنه يمكن حل هذا النزاع الذي طال أمده، إذا ما كانت هناك إرادة سياسية حقيقية لدى كل من النظام الحاكم في الجزائر والمغرب، وانخرطا معًا في حوار تشاركي جدي، حاولا من خلاله القيام بمراجعة جذرية لأسباب الصراع الحقيقية، والتوصل إلى تسوية متوافق عليها، ولا سيما إذا تم ذلك بمساعدة أطراف إقليمية أو دولية.
بينما يرى البعض أن مسألة النزاع المغربي الجزائري المستمر، هي مشكلة مفتعلة أو يراد لها أن تبقى، ليستطيع النظامان بواسطتها تصريف مشاكلهما الداخلية، وتأجيل مسار التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وطالما ليس هناك – حسب رأي البعض- تحولًا ديمقراطيًّا حقيقيًّا في بنية النظامين أو أحدهما، فإنه سيتعذر الوصول إلى حل حاسم لهذه المشكلة.
أخيرًا يجدر بنا عدم إغفال أن هناك كثيرًا من المواطنين المغاربة والجزائريين، الذين تربطهم علاقات طيبة ولا يأبهون كثيرًا بالنزاع السياسي بين البلدين، ويتطلعون إلى اتحاد مغاربي، يتعايش فيه سكان شمال أفريقيا بمختلف انتماءاتهم العرقية والثقافية في أمن وأمان، لكن هذا الأمر سيظل مجرد أمنية حالمة، حتى تفتح الحدود المغلقة بين الجزائر والمغرب.