ظل الاعتقاد راسخا في عقول عدة مغاربة نهاية القرن التاسع عشر بأن بلادهم تحظى باحترام وتقدير كبير من الدول الغربية، وبأنهم أصدقاء وحلفاء لهم، ولن يتوانوا في الدفاع عن وحدتهم الترابية، وسيشدون من عضد السلطان المغربي ويدافعون عن استقلال بلدهم، ولن يدخروا أي جهد في توطيد سلطته ومواجهة بالحديد والنار كل من يفكر احتلال بلدهم المغرب.
وترسخت هذه الفكرة كذلك في عقول وأذهان الكثير من المغاربة أثناء الحرب الباردة المستعرة بين المعسكرين الشرقي والغربي، ومع توالي السنين، واندحار المعسكر الاشتراكي، أخذ المغاربة يتباهون بصداقاتهم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبأن بلادهم في مأمن من أي خطر خارجي يهدد أمنها واستقرارها، وازدادوا يقينا بعد أن وجدت العديد من الهيآت السياسية، والمنظمات الحقوقية الأمريكية مقولة أن “المغرب أكثر من صديق”، بل هو حليف استراتيجي يحظى بمكانة خاصة دون غيره، وذهبوا إلى حد الإعلان بشكل مباشر وصريح، بأن كل من يحاول زعزعة استقرار المغرب أو إعلان الحرب عليه، عليه أن يراجع أوراقه ويعتبر ذلك بأنها معادلة خاسرة وسيكتوي هو بنارها قبل غيره، وهكذا انطلت هذه الخدعة السياسية على الجميع..
.. وإذا كنا اليوم قد استطعنا الخروج بقضية وحدتنا الترابية من عنق الزجاجة، بعد أن تكالب علينا الأصدقاء والأعداء، فإن المرحلة القادمة ستكون حتما صعبة وسيتطلب الأمر منا المزيد من التكتل والتآزر وتوحيد كل الصفوف والجبهات الداخلية لأن المرحلة دقيقة وصعبة، خاصة بعد أن انكشف القناع عن وجوه جديدة معادية لقضية مغربية الصحراء، ومما زاد من حنقهم ذلك الخطاب السامي الذي ألقاه الملك محمد السادس من الرياض أثناء مشاركته في أشغال قمة مجلس تعاون دول الخليج العربي، والذي عرى من خلاله عن نوايا من كنا نعتقد أنهم حلفاؤنا وأصدقاؤنا وحماة استقرار بلدنا، وكشف عن مخططهم التخريبي ونزعتهم للتفرقة والتشردم.
ويمكن العودة إلى التاريخ للقيام بمقاربة بين ما يقوم به ملك مغرب اليوم، وبين ما قام به جده الأكبر، السلطان مولاي الحسن الأول في الدفاع عن وحدة الوطن وخاصة عن أقاليمه الجنوبية، حتى السلطان مولاي الحسن الأول عانى الشيء الكثير من أصدقائه الحلفاء، وخاصة من طرف الحكومات التي تعاقبت على حكم الإمبراطورية البريطانية، والتي ما فتئت تروج لدعاية سياسية مفادها أن المغرب يعتبر بالنسبة لها دولة أكثر من صديقة، بل دولة محورية في سياساتها الخارجية، وبأنها لن تسمح لأي قوة مهما كانت باحتلال المغرب أو زعزعة أمن واستقرار سكانه، وساد الاعتقاد بأن هناك أكثر من روابط وعلائق متشعبة تجمع بين ملوك إنجلترا والمغرب يظل الجميع يستشهد بذلك التفاهم الذي جمع بين السلطان السعدي، أحمد المنصور الذهبي، والملكة الإنجليزية إليزابيث الأولى منذ نهاية القرن السادس عشر، لكن الحقيقة كانت عكس تلك الشعارات والعبارات الرنانة، فقد كان حكام ابريطانيا وممثلوها الدبلوماسيون المعتمدون بالمغرب، يظهرون ابتسامة عريضة أمام سلطات المغرب، ويكشرون في المساء عن أنيابهم الحادة ويرهبون بها كل من يحاول المساس بمصالحهم الخاصة بالمغرب، ولا يعيرون أي اهتمام لا للصداقة ولا للتحالف، فمصلحتهم فوق كل اعتبار ولا حدود تضبطها أو تتحكم في مسارها، واتضح ذلك جليا للمغاربة ولسلاطينهم أثناء الاتفاق السري الذي جمع بين الساسة الفرنسيين ونظرائهم لإنجلتيرا سنة 1904، والذي اصطلح على تسميته بـ “الاتفاق الودي”، تخلت فيه إنجلترا عن المغرب، وأطلقت يد الفرنسيين استعدادا لاحتلاله واستعماره، وضربت بعرض الحائط صداقتها المزعومة مع المغرب، وتكررت نفس الحكاية ونفس السيناريو عندما حل بمدينة طنجة الإمبراطور الألماني غيوم الثاني سنة 1905، وأعلن منها عن وقوفه إلى جانب سلطان المغرب في الدفاع عن استقلاله وعن وحدته الترابية، وسكت بمجرد ما حصلت الدولة الألمانية على نصيبها من الكعكة الإفريقية سنة 1911، حتى تنكر حكامها لتغريدة الإمبراطور وكمموا أفواههم، ولم ينطقوا إلا بما يخدم مصالحهم الاستعمارية.
إذن، لا غرابة في موقف الأمريكيين حول مغربية الصحراء.. فهذا النفاق والخداع السياسي لحلفاء اليوم له جذور تاريخية، وما علينا إلا استنطاق الأحداث التي جرت في نهاية القرن التاسع عشر بخصوص محاولات الأجانب لانتزاع أطراف في حدود المغرب الجنوبية.
ولنأخذ المثال على ذلك، المحاولات التي قام بها أحد الرعايا الإنجليز، المدعو دونالد ماكينزي لاحتلال ساحل طرفاية منذ سنة 1878، والذي كان مدعوما في الخفاء من طرف حكومته التي حاولت دسه في الجنوب المغربي، تحت غطاء عقد صفقات تجارية مع قبائل الصحراء المغربية لما تعرض المركز التجاري الذي أسسه هذا المغامر البريطاني بساحل طرفاية لهجوم قوي قامت به قبائل المنطقة، أسفر عن مقتل بعض أعوان ماكينزي وإضرام النار في منشآته، كشفت الدبلوماسية الإنجليزية عن وجهها الحقيقي، وطالبت السلطان مولاي الحسن الأول دفع تعويض مالي عن الخسائر التي أصابت رعاياها بطرفاية، بل ذهبت على لسان وزيرها المعتمد بالمغرب جون درومند هاي إلى حد التطاول على سلطة المخزن المغربي، وأعلنت أن سلطته لا تتجاوز منطقة درعة، وبالتالي ليس من حق السلطان التدخل في شؤون الأوربيين الذين ينزلون في المناطق الواقعة جنوب واد نون لأنها لا تشكل جزءا من أجزاء دولته… ذهل رجال المخزن المغربي من هذا التصريح الذي لم يكن في الحسبان، خاصة من دولة تدعي أنها الساهر الأمين على استقلال المغرب المدافعة عن وحدته الترابية، وأيقن السلطان أن هذا الكلام المعسول الذي ظل يغلف العلاقات الثنائية بين البلدين، ما هو إلا غطاء لخدمة أغراضهم الاستعمارية ومساحيق يزينون بها وجوههم للتغطية على مخالبهم وأنيابهم الحادة التي أخرجوها استعدادا للانتقام والافتراس، وفي غفلة من الذهول، تذكر السلطان مولاي الحسن الأول تلك اللحظات التي وقف فيها هذا الوزير الإنجليزي بين يدي جده السلطان مولاي عبد الرحمن، وهو يقدم أوراق اعتماده كسفير لبلده بالمغرب سنة 1746، وخاطبه قائلا:
“… مرحبا بك، إن روابط السلام والصداقة التي ربطت بين أسلافنا وأسلاف مولاتكم ستبقى وستدعم، إننا ننظر لمملكتكم وأمتكم باعتبارها أكثر الملوك والأمم صداقة لذاتنا الملكية، لقد عرفنا أباكم وكان ميالا إلينا، وقد برهن على أنه الخادم الأمين للحكومتين، ومن تم فقد حظي بالرعاية التي يحظى بها الرجال المحظوظين في الإمبراطورية، ولقد تعرفنا عليكم الآن وسوف ترثون ما حظي به أبوكم من صداقة ووداد من جنابنا…”.
وبنفس الحزم والعزم الذي تصدى به الملك محمد السادس لتصريحات الأمين العام لهيأة الأمم المتحدة، انتفض جده الأكبر مولاي الحسن الأول أمام تصريحات الوزير البريطاني جون درومند هاي، ورد عليه كلامه بأن سلطته تصل إلى ساحل طرفاية، بل تتعداه إلى حيث منتهى العمارة في الإيالة المغربية، بل استدعاه إلى قصره وأبلغه احتجاجه الشديد، ورد عليه كلامه وطلب منه العمل على التعجيل بترحيل رعاياهم في ساحل طرفاية، بعث برسالة الاحتجاج إلى نائبه بطنجة محمد بركاش، وأمره بتصميمها على كل أعضاء الهيأة الدبلوماسية الأجنبية المعتمدين بالمغرب، مما قال فيها:
“… وقد تكلمنا مع باشدورهم (أي سفيرهم) حيث كان لحضرتنا العالية بالله في شأن ما ذكر والمحل الذي نزلت به رعيتهم دعى أنه خارج عن إيالتنا، فلم نقبل منه ذلك، ورددناه عليه ما كنا وجهنا لك نسخة منه، ومن جملته الاسترعاء على الرجل المذكور هناك بغير إذننا وتصرفه مع قبائل إيالتنا.. وجعل الدرك عليه في كل ما بيننا عن نزوله…”.
بخصوص المبالغ المالية التي طالب بها درومند هاي جراء الهجوم الذي لحق مركزهم المشيد بساحل طرفاية والمسمى بورت فيكتوريا، والذي تسبب في مقتل بعض رعاياهم وخسائر فادحة في المواد التجارية المودعة داخل المركز، بعث إليه السلطان مولاي الحسن الأول برسالة ذكره فيها بأنه لم يرخص لأحد من رعاياهم بالترحل إلى الجنوب المغربي وعقد صفقات تجارية مع القبائل الصحراوية، ومما جاء فيها:
“… وإذا كانت به أمتعة لرعيتكم فاعلم بأنه ليس بمفتوح للتجارة وأن الاسترعاء على وجود الأمتعة المذكورة بذلك المحل، لكون وجودها به خارجا عن القانون ويخالف الحق…”.
لنبرهن بالحجة والدليل العلمي على كلام كل من يحاول التشكيك في ولاء وبيعة أهل الصحراء للسلطان المغربي.
وورد مقتطف من الرسالة السلطانية التي بعث بها مولاي الحسن الأول لشيوخ وقواد ومحاربي قبيلة إزركيين، والتي أثنى بها على نبوغ حسهم الوطني وحميتهم في الدفاع عن حوزة الوطن وتصديهم للأجنبي الذي حاول المساس بالوحدة الترابية للبلاد أو التطاول على أوامر سيادة السلطان إلى هذه المناطق الجنوبية، حيث خاطبهم قائلا:
“الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه،
خدامنا الأرضيين جماعة إزركيين أرشدكم الله وزادكم توفيقا، هداية وولوعا بما يرضيه عنكم، وبعد فقد وصل لحضرتنا العالية بالله كتابكم شارحين فيه ما أنتم عليه من الطاعة والتمسك بحبل الجماعة احتياطا لدينكم وسعيا في مرضات ربكم أصلحكم الله ورضي عنكم وأعاد عليكم بركة ذلك في نفسكم وأولادكم وأموالكم، وبلادكم، فقد نلتم بما فصلتم الحسنة المذخورة والمنقبة المبرورة، وأزلتم عن ناحيتكم المعرة وسعيتم في قطع الشر منها والمضرة، وذلك دليل على متانة دينكم وحسن شيمكم وتنوير بصيرتكم وسريرتكم ونظركم في عاقبة أمر أولئك المتعاطين للتجارة وتنبهتم لما يحاولونه بذلك لأهل تلك الناحية من النكال والخسارة…”.
أمام هذا الموقف الحازم في الدفاع عن مغربية الأقاليم الصحراوية، أزالت الحكومة البريطانية حجاب الصداقة وألغت مؤقتا شعار المغرب حليفا استراتيجيا لها، وأمدت رعاياها بساحل طرفاية بأسلحة فتاكة ومدافع رشاشة جعلتها فوق سطح بنايتها ووجهت فوهاتها نحو السير استعدادا لسحق أي هجوم تقوم به القبائل في المستقبل، فهل هذا العمل يدل على متانة الصداقة المزعومة، وهل الرغبة في انتزاع وسلب جزء من تراب البلاد يعتبر ضريبة أو مكسا يفرضه القوي على الضعيف للحصول على حمايته ووقوفه على جانبه في مواجهة الأزمات والمخاطر.
هذا الترهيب، وهذا التهديد لم يثن من عزيمة لا سلطان المغرب ولا قبائل الصحراء، ولا كل المغاربة، بل استمروا في فضح مناورات “العدو الصديق”، وأعربوا عن استعدادهم للذهاب بعيدا في مواجهته رغم كل الفوارق سواء في الأسلحة أو الجيوش النظامية المدربة على القتال واغتصاب أراضي الغير، وربما أن الأمر أصبح مرتبط بالتسليح، قرر السلطان المغربي الذهاب بعيدا في مواجهته أي خطر مهما كانت جنسيته أو أسلحته، فأمر وزيره، الصدر محمد بن العربي الجامعي بالاجتماع بالوزير البريطاني درومند هاي، للرد على إرسال حكومته للسلاح لساحل طرفاية، حملت الرسالة المخزنية كلاما حاسما للإنجليز حيث جاء فيها:
“… فبعدما كتبنا لك في شأن مكينسي النازل برأس جربي على وجه الاحتياط، تمدد الخبر للحضرة السلطانية بأنه يستعد وينزل آلة الحرب، ولذلك يتعين على المخزن ألا يسكت عن هذا الضرر الفادح، ولا يتغافل عنه بوجه ولا بحال ويتصرف لقطعه بكل ما أمكنه وتأتى له إما بتوجيه حملة معتبرة تجول بتلك النواحي وتصلح الخلل… وأعلمناك لتكون على بال في ذلك وتقف في هذه القضية حتى تخرج على وجه جميل من غير إضاعة رقاب ولا إراقة دماء…”.
وبنفس العزيمة التي تحلى بها الملك محمد السادس وتجشمه السفر إلى العديد من الدول للدفاع عن عدالة قضيته، خرج كذلك جده السلطان مولاي الحسن الأول في حركتين مخزنيتين الأولى لسوس سنة 1882، والثانية لواد نون سنة 1886، للدفاع عن نفس القضية أمام الأطماع التوسعية الإنجليزية بساحل طرفاية والإسبانية بسواحل وادي الذهب.
توافدت عليه جموع من شيوخ وأعيان القبائل الصحراوية، جاؤوا من كل حدب وصوب للسلام عليه وتجديد الولاء والبيعة لحضرته والالتزام بأوامره والوقوف عند نواهيه، ووصل خبر نجاح هاتين الحركتين السلطانيتين على مسامع السفراء الأجانب، تناقلوا أخبارها في ما بينهم، وكان من بينهم السفير الأمريكي، فليكس ماثيوس، الذي شاهد بأم عينيه حلول شيوخ وعلماء وفقهاء القبائل الصحراوية بمدينة مراكش لتمديد البيعة للسلطان مولاي الحسن الأول.
ونود بهذه المناسبة أن نهمس في أذن بعض ساسة العم سام للعودة على التاريخ وقراءة ما كتبه بعض دبلوماسييهم عن مغربية هذه الأقاليم الصحراوية، وأن يضعوا أيديهم على أفواههم قبل أن ينطقوا بكلام كله لغط وحشو..
بقلم: الدكتور نورالدين بلحداد