حدث أن تصدر عن بعض القيادات الحزبية مواقف وردود أفعال، لن يكون متسغربا إن هي أثارت التساؤل حول ما إذا كانت تلك القيادات واعية بعواقب ما صدر عنها. ليس المقصود هنا ما يميز تعاملها مع بعضها البعض، ولا مضمون ما تتقاذفه فيما بينها من تهم وأوصاف، ولا ما تتصف بها خصوماتها من عنف لفظي، ولا ما يشوب ديمقراطيتها الداخلية من أعطاب، ولا ما يميز تحالفاتها من تقلبات لا تحكمها مقاييس سياسية أو إديولوجية واضحة، كتلك التي تتقيد بها الأحزاب في البلدان المتقدمة ديمقراطيا…
المقصود من هذه الخاطر ليس هذه السلوكات، وأمثالها، التي تلوث فضاءنا الحزبي، حتى أنها باتت مألوفة ولا تثير، في غالب الأحيان، أي استغراب أو اندهاش، وقد لا تعدم من يجد لها المبررات والأعذار. المقصود هو الإلتفات إلى سلوك لا يثير ردود فعل كثيرة رغم خطورته. إنه يتعلق بالكيفية التي تتعامل بها بعض الأحزاب مع القضاء (كان قضاء المحاكم أو القضاء الدستوري أو المجلس الأعلى للحسابات) وبردود فعلها، عندما تطال أحكامه بعض قيادييها أو المنتخبين المنتمين لها. كيف تتلقى تلك القيادات الأحكام التي لا تعجبها؟ كيف تفسرها؟ كيف ترد عليها؟ هل تتقبلها راضية؟ هل تتعامل معها بالوقار المطلوب؟ هل تتخذها فرصة لإصلاح ذاتها وكيفية إدارة شؤونها؟
وا أسفاه، يصعب أن تجد من يرضى بالأحكام التي لا تخدم مصالحه، أو لا تنحاز لرغباته، و يستعصي أن تعثر على من يعترف بصوابها، ويتخذها فرصة لتقديم نقد ذاتي، ولتصحيح ما اعوج في صفوفه، ولتحصين أجهزته. فما أن يدان عضو قيادي بسبب أفعال تتعلق بإدارته للشأن العام، أو باستعمال وسائل غير مشروعة في الوصول إلى منصب من المناصب في المؤسسات المنتخبة، حتى تنطلق الإحتجاجات، وتتعالى أصوات التظلم، وتتعبأ الجهود لاسترداد «الحق المغتصب»، أو للرد على «انتقام» أجهزة خفية أو علنية، أو «مؤامرة مخدومة»، أو «محاولة للتقزيم»، أو «انحياز» لخصم سياسي…الخ.
كيف يمكن للمواطن أن يثق في كلام هذا النوع من الأحزاب عن استقلال القضاء، إذا كانت تلك الأحزاب لا تتورع في المس بتلك الاستقلالية؟ كيف يمكن الاطمئنان إلى أنها سوف تقوم، متى انتدبها الشعب، عبر الانتخابات لممارسة السلطتين التشريعية والتنفيذية، بالإصلاح، وبتعزيز سلطة القضاء، وبإحاطتها بالضمانات التي تجعل ميزان العدل قائما، لا تختل كفتاه، ولا تميل إحداهما لصالح جهة ضد جهة أخرى؟ ألا يوحي سعي بعض الأحزاب لحماية أفرادها البارزين من سلطة القضاء، إلى أنها قد تتحول إلى ملاذ للمفسدين، وإلى مكان يحتمي فيه الهاربون من المساءلة والمحاسبة، وإلى حقل يعشش فيه الفساد؟ كيف يمكن خوض محاربة الفساد، إذا استثنيت منها الأحزاب، أو اكتسبت حصانة تجعل القضاء لا يستطيع الإقتراب منها؟
الأسئلة كثيرة، وكما هو واضح، فإنها تقلق إقلاقا حقيقيا، وتدفع للتشاؤم حول مصير كل ما يقال عن مشاريع الإصلاح. إن محاربة الفساد ليست مجرد شعار نرفعه قبيل الانتخابات، وأثناء مجادلاتنا السياسية. لكي يكتسي هذا الشعار المصداقية، يكون على من يطلبون من الشعب انتدابهم لتمثيله أن يتحلوا بالصدق في النية والقول، والشجاعة في مواجهة الفساد انطلاقا من صفوفهم أولا. فمتى يحصل هذا الإقتناع؟ الله أعلم.