|
|
|
|
|
أضيف في 12 يونيو 2016 الساعة 09 : 12
بقلم يونس دافقير
أصوم بتلذذ وحب. وحتى إن كنت من النوع الذي يدخن في باقي أيام السنة كقطار يمشي بالفحم الحجري، لا أجد حرجا في أن يتناول المفطرون طعامهم أمامي ، أو يشعلوا سيجارتهم التي أكتشف، في رمضان فقط، أنها تخنق أنفاس غير المدخنين.
ولي ثلاث أسباب في هذا التعايش . وأنا لا أحب في هذا المقام لفظة «التسامح»، إنها تحمل معنى استبداديا عدوانيا، وهي تفيد أن الآخر على خطأ ونحن المعانقون للصواب، لكننا نترفع عن محاسبته، وهذا من انزلاقات اللغة التي تعايشنا معها حتى صارت من الخطأ الذي تحول إلى صواب شائع.
وأعود لأسباب تعايشي مع المفطرين في رمضان، السبب الأول بيولوجي، فهذا العبد لله ليس من النوع الأكول الذي تستفزه روائح الطعام، ولا أعرف أي قوة سحرية تلك تجعلني أتحمل نقص النيكوتين في عروقي، دون أن أشعر بأي ردة فعل تجاه من يدخن قرب «مناخيري».
وفي ثاني أسبابي هناك بعد إيماني، أنا أصوم لأني أجد في هذا الطقس الديني عبادة روحية وليس إضرابا إجباريا عن الطعام، وسيلاحظ أصدقائي في مواقع التوصل الاجتماعي أني لا أتقاسم معهم تلك التعليقات التي تتساءل عن كم تبقى من الساعات لنسمع آذان المغرب، أو هل بدأ العد العكسي لعيد الفطر. فأنا أصوم لأني أحب أن أصوم، ولأني أجد في ذلك تعبيرا عن حب متبادل بيني وبين الرب الذي خلقني.
لكن السب الثالث هو الأعمق في تعايشي مع المفطرين، هو موقف فلسفي وحقوقي، ومعناه أنه في روح الإسلام وصحيحه تنصيص على حرية المعتقد، وفي مرجعيتي العلمانية أدافع عن هذه القيمة التي تضمنها الحقوق الكونية للإنسان، إنه الأصل الذي تتفرع عنه حقوق متشعبة ومنها الحق في إفطار رمضان من عدمه. وكما لي الحق في أن أفطر، من واجبي أيضا أن أحترم حق الآخر في الصيام.
ولم يكن ممكنا أن أصل إلي هذه القناعات لولا تجربتي الشخصية في اللاتدين، أو ما يسميه بعض الإسلاميين بحمولة قدحية وتكفيرية «الإلحاد». وليس ذلك اعتباطيا، فمن هذا المفهوم إلى ذلك يتغير الكثير من الفهم وسوء الفهم، وتتتباين الأحكام الدينية في التشدد والتطرف.
لكن، لنترك جدل المفاهيم جانبا. وأظن أن هناك سببا وجيها يجعل دعاة الإفطار العلني في رمضان يكثفون من خرجاتهم التي يراها الإسلاميون استفزازا لإيمانهم، ويراها حماة الحرية الفردية مقاومة لفعل سلطوي رجعي يستهدف حقوق الفرد.
صار المجتمع أكثر تشددا تجاه ممارسة الحريات، لقد فرض الإسلاميون في السنوات الأخيرة وجدانا عاما في الفضاء العمومي والرمزي، صار يرى في الحرية الفردية تهديدا للدين، ومنذ أن بدأت الآلة الدوغمائية للدين السياسي في تجييش المشاعر، دأب المغاربة على نبذ الآخر المنتمي إلى الأقلية الدينية أو الجنسية وحتى العرقية.
وكان على دعاة الحرية الفردية أن يمارسوا حقهم في الدفاع عن مبادئهم ونمط عيشهم، وبعدما كانوا يمارسون سلوكا فرديا، بدؤوا في التكتل والتعبير عن مطالب جماعية، ولو بقوا مجرد أفراد لأبادهم المجتمع المحافظ. ومن دون شك . كانت سنة 2007 هي عتبة المنطلق، يومها أطلق حوالي مائة مثقف وناشط نداء من أجل الحريات الفردية، و بعدها جاءت «تنظـيمات حركية» كما في اللغة الجهادية للإسلاميين.
لم تكن حركة «مالي» سوى التعبير الأكثر راديكالية عن هذا النزوع نحو التكتل والمقاومة الجماعية، لكنها كانت قوقعة فارغة: قضيبة من دون عمق فلسفي، بحث عن الظهور أكثر منه قناعة نضالية، ومن كاريكاتيرية المشهد أن صار أصحابها من ذوي «الإعتقال السياسي»، فقط لأنهم قضوا بضع ساعات في «الكومميسارية» بفعل غباءين متقاطعين: واحد أصولي وآخر مخزني.
وكان الإفطار العلني فيما أذكر، من تجربتي الخاصة بداية سنوات التسعينات سلوكا فرديا، وكان المجتمع وحتى بعض الإسلام السياسي متسامحا بلغتنه ومتعايشا وفق صحيح التعبير. لم تبدأ تجربتي مع صيام رمضان إلا سنة 2004، ولذلك فأنا حديث العهد بالإسلام. وتجربتي مع الطقوس الدينية والعبادات بالكاد تبلغ سنتها الثانية عشرة لم تبدأ تجربتي مع صيام رمضان إلا سنة 2004، ولذلك فأنا حديث العهد بالإسلام. وتجربتي مع الطقوس الدينية والعبادات بالكاد تبلغ سنتها الثانية عشرة.
في الثامنة عشرة من عمري، وأظن أن البداية كانت سنة 1991، كنت ماركسيا حتى النخاع، أقرأ كتب كارل ماركس وتلامذته بنهم بدل مقررات وزارة التربية الوطنية التي كنت أشتم فيها روائح الغباء والبلادة، وككل رفاقي في المرحلة، كان شعارنا «الدين أفيون الشعوب»، وأفخر أننا مارسنا اللاتدين بعمق فلسفي وليس بمجرد قراءه بضع إعلانات حقوقية.
ما علينا. تلك قصة طويلة. ولنروي بعض الوقائع كي نعود إلى حكاية التسامح أو ما أفضل تسميته بالتعايش. ذات صباح رمضاني كنت أتناول فطوري الصباحي، فجأة دلفت الوالدة إلى المطبخ، ذهلت بالمشهد فأغلقت الباب وانسحبت مسرعة، انقبض قلبي وقلت إن الوالد سيحضر ليعاقبني على هذا السلوك الذي لا يليق بسوسي من أسرة متدينة محافظة. لكني لم أسمع أي ردة فعل، حملت محفظتي وهرولت نحو الثانوية. لما عدت في المساء، جلست إلى طاولة الإفطار كأي صائم والخوف يتملك جوارحي، لكني فوجئت مرة أخرى بألا أحد طرح الموضوع، كان المتلصصون على غرفتي (البرتوش) في سطح العمارة قد أخبروا مسبقا والدتي بنوعية ما أقرأ، وبأعقاب السجائر التي أتركها نهار رمضان.
وحتى في الحي الذي أقطنه، كانت سمعتي الماركسية تسبقني، لكن لا أحد سبني أو نهرني، وحتى جارتنا «السعدية» التي كانت أول من اشتم رائحة السجائر تنبعث من «برتوشي» نهار رمضان، لم تتوقف عن مبادلتي التحية والسؤال عن سير الدراسة. ربما لأن الناس في ذلك الزمن كانوا يؤمنون بما يقول عنه «سبينوزا» في مؤلفه العظيم «السياسة واللاهوت»، بأن الإيمان معاملة وليس طقوسا، وبأن الدين رباط خاص بين الفرد وربه.
وكنت معروفا أنا وبضع زملائي في الثانوية بأننا مفطرو رمضان، لكن لا أحد نبذنا، عوملنا بشكل عادي ولم يؤثر ذلك على علاقتنا بالآخرين الصائمين، حتى أستاذ التربية الإسلامية لم يأبه بالأمر، ولم ينفخ في وجهنا ريش لحيته الكثة إلا يوم تجرأنا على أن نقتسم معه قاعة العروض الثقافية بثانوية البارودي، ونعرض إلى جانب معروضاته حول «عذاب القبر» كتاب «رأس المال» لماركس. وفي الكلية حدث الشيء نفسه، لا إفطار في رمضان، ولا تقاعس عن تناول وجبة الغذاء التي نسرقها من سحور العائلة، لكن التدخين خلق لنا مشكلة، ذات يوم توجهت إلى مرحاض الكلية وأشعلت سيجارة «كازا»، ولأنها مثل سلاح كيماوي اشتمها كل من في محيط المراحيض، كانت جماعة «العدل والإحسان» تبسط سيطرتها على الكلية، وتطوع أحد الفضوليين ليخبر أعضاء التعاضدية، حضر شاب اسمه أزبير عبد الفتاح، طرق باب المرحاض وفتحت، نظر إلي بتحسر، لكنه لم يجرني إلى المحاكمة الجماهيرية كما فعل طلبة البرنامج المرحلي مع نادلة فاس، طلب مني بأدب أن أدخن خارج الكلية كي لا أحرج جماعته أمام الطلبة.
لقد كانت سنوات مجتمع متعايش مع الحرية الفردية ومع حرية المعتقد، لكننا اليوم في مجتمع متشدد. والسبب هم إسلاميو المرحلة القاعدية والداعشية، إنهم لا يرفضون حرية الإفطار أو الصيام دفاعا عن الدين، بل حماية لرأسمالهم الرمزي، إنه السؤال البسيط: إذا لم يدعوا الدفاع عن الدين، ماذا ستكون بضاعتهم في سوق السياسة؟ ولأعد إلى تجربتي الشخصية. في سنة 2004 حدثت أشياء كثيرة في حياتي الخاصة وفي قراءاتي الفكرية الجديدة جعلتني أقوم بمراجعة فلسلفية لتجربتي في اللاتدين، ومنذ تلك السنة صرت مسلما، أما الإيمان فتلك درجة عليا لا أزعم أني بلغتها بعد.
وقد أفادتني تجربة اللاتدين والإفطار في رمضان في أن أكون مسلما بالقناعة وليس بالوراثة، وأنا اليوم أصوم لأني مقتنع بالصيام وليس لأني ولدت في محيط أجبرني منذ البلوغ أو بضعه بسنوات قبل ذلك على الإمساك عن شهوات البطن والفرج. وأعرف الله لأني اكتشفته ذاتيا بالتأمل وبالقراءة الفلسفية، وليس لأنهم زرعوه في مخيلتي شبحا يوزع الوعد والوعيد، يبشر بالجنة ويلوح بجهنم.
هل فهمتم ما أريد قوله: دعوا الناس يمارسون حريتهم، فليصم من يشاء وليفطر من يشاء، فلكل منا طريقه إلى الله وتوقيت الوصول إليه، وهناك من يعبده بالطقوس وآخرون يتعبدون إليه بالمعاملات، وفي نهاية المطاف الدين رباط فردي بينه وبين مخلوقاته الآدمية، ولا دخل فيه للمجتمع أو الدولة أو الأحزاب أو الفقهاء. لكني مع ذلك أتأسف وأشعر بالقلق: صرنا غير متعايشين مع الآخر، غدونا أكثر تشددا وعدوانية، إن ذلك أخطر على الدين والدنيا من إفطار رمضان أو صومه.
|
|
2235 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|