ليس من المبالغة في شيء القول إن سلسلة "الكوبل" لحسن الفذ قد بلغت درجة قصوى من النجاح ومن الجماهيرية بقدر لا تضاهيها أية سلسلة كوميدية أخرى. وإن كانت السلسلة استفادت من اقتضاب محكيها وزمنها الدرامي، ومن إمكانية مشاركتها عبر وسائط التواصل الاجتماعي، بخاصة الفايسبوك الذي فتح فيه حسن الفذ صفحة خاصة، ظل يتابع فيها السلسلة ويشاطر حلقاتها مع متابعيه، بل ويعمل على توجيه التلقي باختيار مقاطع معينة يراها أقوى تأثيرا. فإن سر نجاح العمل يجاوز هذه العوامل التقنية المتوفرة لجميع الفنانين دون أن تتمكن أعمال كثير منهم من نيل الحظوة نفسها، أوحتى حال التبني العارم للكوبل من قبل المغاربة.
والكوبل وبالقدر نفسه "كبور والحبيب" يعتمد ديكورا وإكسسوارات بسيطة، بل إن إطاره الموضوعاتي العام لا يخرج عن ثيمة نمطية ومستهلكة هي شخصية البدوي، سلوكاته وتصرفاته في فضاء البادية. غير أنه ينبغي التأكيد على أن زاوية التناول تتسم بكثير من العمق من حيثُ ملامستها جوهرَ الشخصية المغربية التي تميل، بقوة، إلى قصص المكر والخدعة والكدية والتحايل، أفلم تجد قصص "حديدان الحرامي" هوى عميقا لدى المغاربة دون غيرها من حكايات الجدات؟ ألم ينل الشريط التليفزيوني "عايشة الدويبة" ومسلسل "حديدان" النجاح ذاته بسبب من القصص ذاتها؟.
وإذن، فإن هذا الجانب الذي يختزله كبور، بغض النظر عن بدويته التي نراها لا تخلو من تنميط، هو ما شدّ الجمهور الواسع. ولنلحظ أن كبور لا يتوانى عن توظيف الكذب والخداع لتحقيق مكاسب حتى لو كانت غير ذات قيمة كبرى من قبل خمسين درهما أو كرسيا متحركا هو أليق بشخص من ذوي الحاجات الخاصة. فلا يهمه أن يغمط حق شخص آخر ولا احتجاج الناس، ولا ينظر إلى الحق بل المغنم.
المماثلة
إنا نرى أن شخصية كبور لا تختلف عن شخصيتي مقامات الهمذاني والحريري الشهيرتين "أبو زيد السروجي وأبو الفتح الإسكندري"، إذ يتفق معهما في سمات المسكنة الخادعة والذكاء السلبي الذي يوظف لسلب ممتلكات الناس أو جلب تعاطف ما أو حتى تسفيه الآخر ورميه بنقائص الذات وإسقاطها عليه. ولعل كبور في الحلقة الثانية عشرة من الجزء الثاني، وهو يدعي أمام ابنته زهرة "سميرة هيشكة" أن زوجته الشعيبية "دنيا بوطازوت" تنتقص من قدره وتصرخ في وجهه وتكاد تضربه أحيانا، في قلب للوقائع لدليل على عملية إسقاط النقائص التي يمارسها كبور، والتي هي، في الحقيقة، عنصر أساس من معاملاتنا،. إذ رمي الآخرين بنقائصنا جزء من هويتنا السلوكية التي ندين بها.
ونحن إذ نتعاطف مع كبور ونغدق عليه حبنا بالرغم من علمنا بحبائله وشخصيته غير السوية وغير الأخلاقية، هو، في العمق، ترجمة للجانب العميق في شخصيتنا الذي نحاول إضماره في القول والفعل الخادع أحيانا، لكنه يرشح في تماهينا المفرط معه، أي كبور، الذي هو شخصية مركبة مما يعجب جانبا كبيرا من الناس ويروقهم ويحبذون أن يتوفر فيهم، مؤداه القدرة الخارقة على ادعاء الضعف والفقر، والتحلي بالذكاء وسرعة البديهة بغية استجلاب منافع عينية ومادية، ورمزية أيضا.
وإن هذا ما نسميه تقنية "المماثلة"، أي أن عمل "الكوبل" هو نمذجة لسلوك الأشخاص يما يضمنه من مفارقات غريبة، تنبه على التباين المفرط الذي يصل حد التناقض دون أن يؤدي ذلك إلى الفرقة أو الشقاق المطلق، ولعل العلاقة بين كبور والشعيبية هي أهم تجلٍّ لهذه المفارقة. إذ بقدر ما يميز كبور من نزق وخفة ومكر، بقدر ما تظهر الشعيبية بفائض الرزانة والهدوء والعقلانية.
ولعل واقعنا لا يخلو من نماذج مماثلة تتعايش مع المفارقة والتناقض الصارخ اللذين هما من صميم حياتنا وملحها الأبدي. ولهذا نفسر ألاّ يحقد الجمهور على كبور بالرغم من كل سلوكاته ويحب في الوقت نفسه الشعيبية، دون أن يشكل التناقض الصارخ بينهما أي مشكل للجمهور الواسع. ونعتقد أن السبب كامن في اعتباره، أي التناقض، جزءا من حياتنا "الطبيعية". ألسنا نحب، أحيانا، أن يسقط الناجحون ثم نبالغ "بصدق" في التعاطف معهم؟.
الإيحاء
إن التلميح بدل التصريح المكشوف، هو أهم ما يسم سيناريو الكوبل وحتى حلقتي الجزء الثالث من "كبور والحبيب"، وإن كان التلميح يكتنز دلالات متعددة يفك المتلقي شفرتها بدرجات متفاوتة استنادا إلى تكوينه وثقافته ودرجة انتمائه إلى السياق المحلي الذي هو عنصر ثابت لتشرب تلك الدلالات. فإن كثيرا من التلميح ارتبط بالإيحاءات الإيروسية التي وظفت بحذق وإضمار، ودون أن تستغرق غالبية الحلقات حتى لا يصير حضورها فجا وسطحيا ومستكرها.
ومن معالمه شكل الشعيبية نفسه، بتلك البدانة الموجهة لتخدم بحركاتها وطريقة نهوضها تصورا للمرأة المفضلة في مناطق بعينها وعند فئات مخصوصة، وبالرغم من أنه تصنيف يدخل في لعبة تنميط الصورة والثقافة، إلا أنه خدم من الناحية الفنية كثيرا من المشاهد، ومنها الحلقة التي يبحث فيها عن البترول في خيمته، حينما صاح كبور في الشعيبية "ادخلي ورزقي تيسوط فيه البرد"، بما تضمنه هذه العبارة الدارجية من حمولة إيحائية.
وهي الحمولة التي تكررت في مشاهد أخرى من مثيل مشهد الدعوة إلى العرس التي انتهت بإيحاء إيروسي أظهر، حين قال لزوجته الشعيبية "أرى أنك وضعت العطر ونمت". وأيضا في الحلقة الأولى من الجزء الثاني. ويشمل ذلك الحلقة الأولى من الجزء الثالث من "كبور والحبيب" حين اشترطت صاحبة العمارة على المكتري كبور بألا تسمع صوت الكعب العالي في عمارتها.
ولعله ينبغي الاعتراف، بأن حسن الفذ وفريق الكتابة في جميع الأجزاء، وظف هذه الإيحاءات بمكر فني بالغ وبليغ. بحيث إن مشاهدة الحلقة مرة واحدة، قد لا تمكن المتلقي من استيعاب الموقف بعمق، بله أن يفك رموزه وشفراته وأبعاده الثقافية. إذ لا بد من اعتماد المشاهدة المتعددة ثم الوقوف رأسيا وعمقيا لاستكناه المراد. وهو، ربما، ما جعل جمهور الكوبل يتنوع بين الأمي والقليل الحظ تعليما وثقافة وبين "المثقف" والمتعلم. إنه عمل يخترق فئات كثيرة؛ لأنه يلعب على مستويات تأويل عديدة، سطحية وعميقة، ويمسك، أيضا، بجوهر الشخصية المغربية التي هي واحدة في العمق ومدموغة بثقافة متجدرة في المخاتلة. وإن أحبها السياسيّ؛ فلأن المخاتلة طبعه أيضا.
خاتمة
إن الإيحاء والمماثلة هما عصبا الأجزاء الثلاثة للكوبل، وهما عاملان سيضمنان، في ظني، استمرار سحر شخصية كبور بناني السميرس والحبيب أنيق. بالرغم من غياب الشعيبية "دنيا بوطازوت"، فهي على مقدراتها التشخيصية المحترمة، ليست ركنا لازما وكافيا.فالقوة الحقيقية للعمل تكمن في النص الدرامي المحبوك بدهاء. والدليل على ذلك أن شخصية الحبيب "هيثم مفتاح" تجبّر حضورها في الجزء الثاني بدخولها في صلب اهتمام النص، بينما كان تراجع دور الشعيبية في ذلك الجزء نتيجة منطقية لاقتطاع بعض من مساحتها النصية لصالح الحبيب.
بمعنى أن أي شخصية في "الكوبل" تمتح قوتها من النص ذاته أولا، ثم من التجاوب في المواقف ثانيا. ولو توفرت لكثير من الأعمال الدرامية قوة النص وتضمنه مستويات تأويل متنوعة لقلّ غضب الجمهور والنقاد معا.
*ناقد