الفضيحة التي تسبب فيها تسريب أسئلة امتحانات البكالوريا في الجزائر مدوية وتشكل عارا على الجميع. وهي لا تخص وزيرة التربية والتعليم فقط، بل تشمل مؤسسات الإدارة والحكم.
أكثر من فشل الحكومة ومؤسسات الحكم، الفضيحة تكشف إخفاق مجتمع بأسره اتضح أنه يفقد بوصلته ويسير في الاتجاه الخطأ.
رسميا، شكل البكالوريا في الجزائر طيلة عقود فرصة للحكومة للتباهي، فكانت أسماء الفائزين تُقرأ في الراديو ساعات وساعات على وقع الأغاني والبهجة الشاملة، وتُنشر في الجرائد محتلة صفحات عدة متتالية. وكانت النتائج تُعلن في سياق زمني قريب من الاحتفالات بعيد الاستقلال، ما يجعل البلاد تعيش جوا استثنائيا في شهر تموز/يوليو من كل سنة.
أما اجتماعيا، فالبكالوريا هو مفتاح الجامعة، ونقطة الفرز بين نخبة المجتمع وعامة الناس. لهذا لا غرابة أن تحتفل العائلات الجزائرية بفوز أبنائها وبناتها بالبارود ونحر الذبائح وإقامة الولائم. الفوز في البكالوريا مزدوج التأثير: يفتح لصاحبه أبواب المستقبل، ويرفع رأس عائلته وعشيرته اجتماعيا.
كان هذا إلى وقت غير بعيد. تغيّر الحال وخسر البكالوريا في اتجاهين: اتجاه الحكومة التي باتت عاجزة عن تنظيم هذا الامتحان في ظروف لائقة (على الرغم من تجنيد الشرطة والدرك وقطع خدمة الإنترنت على البلاد خلال أيام الامتحان هذا العام). واتجاه المجتمع الذي تراجع تقديسه لشيء اسمه البكالوريا.
من ثمار هذا التحول أن العنوانين اللذين سيطرا على أخبار بكالوريا 2016 لا علاقة لهما بالعلم والجامعات وأحلام المستقبل، بل تمحورا حول الغش ووصول الكثير من المترشحين متأخرين لمراكز الامتحانات، وحرمانهم من المشاركة في الامتحان.
قبل أخبار الغش، كان الجدل حول التأخر عن موعد الامتحان وكم من الوقت يحق للمتقدم أن يتأخر، ثم مقارنة بين المناطق والولايات.. هنا سُمح لهم بالتأخر خمس دقائق وهناك سبع دقائق، وهنالك أكثر أو أقل.
من الغريب أن يصل طالب متأخراً إلى أهم امتحان في حياته ثم يجادل بأن من حقه أن يمتحن. ومن الغريب حقا ان يتحول التأخر إلى نقاش وطني يشارك فيه الطلاب وأولياؤهم ووسائل الإعلام، وتثار الشكوك في كونه حقا من حقوق الطالب.
هذه علامات واقع مؤلم ويبعث على الأسى. مسؤولية الحكومة هنا واضحة، لأنها لم تعد قادرة على فرض الانضباط المادي والمعنوي الذي يجب أن يلازم هذا الامتحان.
لكن مسؤولية المجتمع لا تقل حجما وخطورة لأنه جعل من تجار المخدرات وناهبي المال العام قدوته، وأصبح يبجل «النجاح» المادي بغض النظر عن السبل التي توصل إليه. في الوقت ذاته يمعن في السخرية من حَمَلة العلم والشهادات.
محاولة تسييس الفضيحة فيها بعض الوجاهة، لكنها هروب إلى الأمام. الادعاء أن تسريب أسئلة الامتحان عبر منصات التواصل الاجتماعي هدفه ضرب الوزيرة نورية بن غبريت، يقابله ادعاء مماثل يعود إلى سنة 1992 عندما سُرِّبت أسئلة الامتحان ذاته وقيل إن الهدف كان ضرب الوزير آنذاك علي بن محمد.
القول إن استهداف بن غبريت سببه «إصلاحاتها التي ستقود إلى مدرسة عصرية متنورة تخيف المحافظين» يقابله قول آخر يعود إلى 1992 عن أن الوزير بن محمد كان «يقلق الفرنكوفونيين وحلفاء فرنسا بإصلاحات هدفها مدرسة جزائرية الهوية عربية وإسلامية التوجه».
استهداف وزير/ة بتسريب أسئلة امتحان البكالوريا يشبه محاولة اصطياد عصفور بقذيفة هاون، تصيب العصفور لكنها تحرق الغابة كلها. ذلك أن التسريب يجعل عشرات آلاف الطلبة وعائلاتهم رهائن، ويضرب معنويات المجتمع وثقته في نفسه، ويكلف البلاد ميزانية ضخمة، ويضرب في الصميم سمعتها (المضروبة أصلا) أمام المجتمع الدولي وهيئاته العلمية والتعليمية. ناهيك عن ضياع آخر ما تبقى من رهبة وقدسية امتحان يبدأ الحلم بالنجاح فيه مع نعومة الأظافر.
الذين يطالبون اليوم باستقالة الوزيرة بن غبريت لا يختلفون عن الذين طالبوا في 1992 باستقالة بن محمد (وقد أعلن استقالته في اليوم نفسه للفضيحة). هم يعرفون في قرارة أنفسهم أن أفضل وزير في العالم سيعجز عن منع مؤامرة من هذا الحجم، وأن البكالوريا لا يحميه وزير مهما ادّعى من حزم، بل مجتمع مستقر متوازن واثق في نفسه يقيس الأشياء بعقله، ودولة جادة تحترم نفسها ومؤسساتها.
اليوم الجزائر كلها في ورطة:
* إعادة جزء من الامتحان، كما قررت الحكومة، ليست حلا بل ترقيع مريح للجميع.
* إعادة الامتحان كله لم تكن لتنقذ الوضع لأن لا أحد يضمن عدم تكرار ما حدث في امتحان الأسبوع الماضي. ناهيك عما تحتاجه دورة جديدة من متطلبات وتحضير.
* الإبقاء على الامتحان والقبول بنتائجه فضيحة وأزمة نفسية وشخصية ستلاحق الفائزين والفاشلين على حد سواء، بقية أعمارهم.
* استقالة الوزيرة لن تحل المشكلة لأن لا أحد يضمن أن الوزير البديل سيمنع تكرار ما حدث.
المعضلة أقوى وأكبر من مجرد وزير في حكومة كلها عقيمة. أخشى اننا أمام نموذج جديد للدولة الفاشلة، لأن الدولة الفاشلة في علم السياسة الحديث ليست فقط ميليشيات تركب ظهر سيارات رباعية الدفع وتطلق القذائف بكل اتجاه في حالة من الهستيريا، كما نشاهد في ليبيا والصومال والعراق. قد تكون أيضا دولة عاجزة، ماديا ونفسيا، عن تنظيم وإنجاح امتحان يسمى البكالوريا.
بقي القول إن التهديد والوعيد الحكومي بمعاقبة المتسببين، مجرد ثرثرة ظرفية. هذه البلاد قتلت رئيسا (بوضياف) ومضت كأن شيئا لم يحدث. إنها مجبولة على الوعود ولجان التحقيق التي تنتهي بوأد ما وُجدت من أجله. والغش في البكالوريا ليس مصيبتها الوحيدة، بل الأخيرة في القائمة في انتظار المزيد.
توفيق رباحي القدس