الحالة الأولى: نعيمة ومنير متزوجان منذ بضع سنوات. يحبان بعضهما. لكنهما بعد طول تفكير، قررا عدم الإنجاب. هذا يجعلهما مرارا مضطرين لتبرير اختيارٍ يُفْتَرَض أنه لا يعني سواهما. هناك خطوط حمراء في الاختيارات الشخصية تكون صعبة التقبل، حتى أمام أصدقاء شباب متعلمين أحرار إلى حد كبير في نمط عيشهم. كأن تحطم “بديهيات” العلاقة بين رجل وامرأة: ستحبان الطفل بعد إنجابه. ستغيران رأيكما. الأطفال سيقربونكما أكثر من بعضكما البعض. إن لم تفعلا ستندمان…. لماذا يصر الكثيرون على إقناعنا بما يعتقدون أنه أفضل لنا؟ لماذا يصر الجميع على إقحامنا في نموذج واحد لما “يجب أن نكون عليه”؟ لماذا لا يتركنا من يحبوننا نختار طريقنا، حتى لو أخطأنا فيه؟
الحالة الثانية: كانت سمية تحب زميلها في الدراسة. لكنه لم يكن مستعدا للزواج. ولأننا في مجتمع يعتبر الزواج “شرا لابد منه” وخصوصا بالنسبة للفتاة، فقد اعتبرت سمية بأن علاقة الحب تلك لم تكن ناجحة، رغم ما كانت توفره لها من سعادة حقيقية. لاحقا، ارتبطت بشخص آخر كان مستعدا لأن يخطو تلك الخطوة. “شاب مناسب” حسب المعايير المجتمعية. مضت الآن خمس سنوات، وسمية تعيش علاقة زوجية لا توفر لها ولا لزوجها السعادة؛ لكنهما لا يجرؤان على الطلاق لأن أحدا حولهما لن يفهم؛ فسمية وزوجها يملكان ظاهريا كل مقاييس النجاح: شقة جميلة ووظيفتان محترمتان وطفلة وإجازات في الخارج ومستوى مادي لا بأس به. شيء واحد ينقصهما: تلك الشعلة الصغيرة التي كان يمكن أن تجعلهما يسعدان بكل هذا المشترك. لكن، من قال إن مجتمعنا يطلب منك أن تكون سعيدا كفرد أو أن تكونا سعيدين كزوجين أو كحبيبين؟ المهم أن تنخرطا في المؤسسات التقليدية؛ وسيكون من الأفضل لو توفرت لكما الأشكال الخارجية والمادية للنجاح والسعادة. حتى لو كان المقابل أن تنطفئ أنتَ لكي يشتعل المجتمع وتنظيماته. أن تبقى سمية مع رجل تحبه وتسعد إلى جانبه سيكون مضيعة للوقت ما لم يتزوجا. لكن نفس المجتمع لا يرى بأن الزواج من رجل لمجرد أنه يوفر فرصة الدخول للمنظومة التقليدية للزواج قد يجعلها تضيع العمر كله. هذا الضغط يصبح جزءا من التنشئة الاجتماعية التي تجعل الكثيرين يتصورون أنهم اختاروا… بينما هم في الواقع اقتيدوا لاختيار أقرب طريق لنموذج النجاح المقدس مجتمعيا.
الحالة الثالثة: نادية امرأة ذكية أنيقة. اختارت الطلاق بعد بضع سنوات من حياة مشتركة لم ترَ أنها تحمل لها ما ترغب فيه من حب وشراكة وتوافق. لكنها أصبحت في نظر الكثيرين “امرأة مستهترة” لأنها لم تستطع “الحفاظ على زوجها”. طبعا، فالأساسي هو أن “تحتفظ” بزوجها وتحرص على البقاء معه، حتى لو جمعهما بيت وسرير وفرقهما كل ما دون ذلك من أحلام وتصورات وتطلعات. المهم أن لا تخسر الحياة الزوجية، حتى لو خسرت نفسها وسعادتها. لا أحد يهتم لكونها اليوم أكثر ألقا وأكثر إشراقا. فالمشكلة في النهاية ليست سعادتها كفرد، بل كونها توجد خارج السرب. نادية لم تطلب الطلاق بسبب الخيانة أو العنف (مما قد يكون مفهوما نسبيا في مجتمعنا)… بل “فقط” بسبب نقص في الحب والانسجام. كان سيكون أفضل لو أنها “شدّاته بالأولاد”. فليس مهما أن نبقى مع شخص لأنه يرغب في العيش معنا ولأننا نرغب في العيش معه، بل أن نضع له السلاسل والأغلال التي تجعله غير قادر على المغادرة. نحن إذن لا نريده معنا لأنه يحبنا بل لأنه لا يستطيع عن ذلك بديلا.
الحالة الرابعة: خالد كان يحب زميلته في الدراسة. تخرجا واشتغلا وعاشا معا قصة حب جميلة. لكنه اختار الزواج من “بنت دارهم” لأن حبيبته السابقة مارست معه الجنس. تزوج من امرأة بكر بدون ماض (على الأقل فيما بدا له)… لكنه بعد بضع سنوات وجد نفسه يبحث عن نساء يعيش معهن ما لا يستطيع أن يعيشه مع زوجته من عشق وشغف وأحيانا من نقاشات اقتصادية وسياسية لا تهتم لها زوجته. خالد تزوج في النهاية نموذجا للمرأة “المناسبة” اجتماعيا وليس للمرأة التي كان يمكن أن يكون سعيدا معها. من قال إن الزواج شراكة وانسجام واقتسام للتفاصيل اليومية والهواجس والأفراح والأحلام؟ المهم أن نجد امرأة تستجيب لدفتر التحملات: بنت دارهم، بكر، جميلة، “حادْقة”. والمهم أن نجد رجلا يستجيب لدفتر التحملات: مستعد للزواج وبمستوى مادي مناسب. في مرحلة مقبلة، سنخطط للعرس والدّْفوع والنكافات والطريطور أكثر مما سنفكر في الحياة المشتركة القادمة… ثم بعدها سننجب دون أن نفكر ولا حتى أن نسأل أنفسنا: هل هذه هي الحياة التي نريدها حقا؟
كل الحالات أعلاه مفبركة. لكنها تستلهم تفاصيلها من واقع حقيقي علينا فقط أن نمتلك جرأة تأمله. واقعُ مجتمعٍ لا يطلب منك أن تفكر في اختياراتك الحقيقية بل أن تتبع نموذجا لما يجب أن تكون عليه. مجتمع لا يسائل اختياراتك كفرد بل يفرض عليك أن تنخرط في نسق المجموعة، لكي نصبح جميعنا نسخا متشابهة من نموذج لا يشبهنا… لكنه يُطَمْئِن الجميع.