هي أسوء شعوب الأرض حظا هذه الشعوب العربية بكل تأكيد. اليوم ومع كل مايجري في كل مكان من رقعتنا المكانية التي اصطلح عليها الكبير الماغوط قبل الزمن بكثير عبارته ذائعة الصيت "التابوت الممتد من الماء إلى الماء", شيء واحد يتضح لنا جميعا: سنتحرر بالتأكيد من كل الديكتاتوريين الذين حكمونا بقوة الحديد والنار لسنوات وعقود طويلة. لكننا سنسقط رهينة في يد ديكتاتوريين من نوع آخر هم إسلاميو السياسة بمختلف التسميات والتلوينات.
الجميل في الأمر أو الكئيب, حسب الجهة التي نوجد فيها, هو أن شعوبنا تختار هذا المصير بيدها. هي اليوم تعتقد أن الجهة الوحيدة التي يمكنها أن تقود الأمة إلى النصر والسؤدد هي الجهة الدينية. وهنا بالتحديد لا إشكال. نحن أناس نصرخ منذ القديم أننا نريد الحرية للناس وترك الخيار والاختيار إليها, وحين يأتي الصوت حاسما بهذه الطريقة أن الناس تريد الظلامية, وتعتبر أنها السبيل الوحيد لإنقاذ ماتبقى من الأمة, هنا بالفعل يجب احترام اختيار الناس وإن كان غير واع. بل يفضل تجنب مثل هذه الأوصاف في مثل هذه الأوقات لئلا يقول القائل إننا نريد الحجر على الناس, أو أننا نمارس الوصاية عليهم.
من نحن أصلا لكي نعتبر أنفسنا قادرين على ممارسة الحجر على "خير أمة أخرجت للناس"؟ الأمر لايستقيم قطعا, ومن شاهدوا المستشار مصطفى عبد الجليل (الذي كان حتى شهور خلت وزيرا للعدل في حكومة القذافي, لكن هذه المسألة مستحبة النسيان الآن), وهو يبدأ خطاب التحرير بالسجود شكرا لله قبل أن يؤكد مسألتين هامتين وأساسيتين في هذا الخطاب التاريخي: تعدد الزوجات سيعود بكل ازدهار إلى ليبيا, والأبناك لن تتعامل بالفوائد مع زبنائها, فهموا أن اللعبة انتهت بالفعل وأننا "سالينا" حقا. "غيم أوفر" هكذا يقول الإنجليز.
البعض قال "كل هذا من أجل هذا؟", واقترح ساخرا "لو علم القذافي أن هذاهو مايريده الثوار فقط لسلمهم ذقنه دون مقابل, ودون أن يضطر لعيش تلك الساعات الرهيبة التي فصلت بين إلقاء القبض عليه وبين سحله حيا بأيدي الثوار" في لقطات ستبقى للتاريخ دليلا على "عظمة" الثورة الليبية. لكن كل هذا لايهم الآن, والأساسي هو أن الزمن بتسارعه المثير للدهشة لايمنحنا اليوم حتى فرصة التقاط الأنفاس.
تونس سلمت ذقنها هي الأخرى للنهضة الإسلامية لكي تفعل بها ماتريد, والبعض في المغرب قال إن "البيجيدي مستعد للعب نفس الدور الذي ستلعبه النهضة في تونس اليوم, ومستعد لحصد نفس النتائج التي حصدتها جماعة راشد الغنوشي في الانتخابات الأخيرة". معذرة على التطفل مجددا, لكن النهضة كانت ممنوعة في تونس, والبيجيدي مسموح به وممثل في البرلمان في المغرب. زعيم النهضة كان يعيش في المنفى اللندني على قدر العلم الصغير الذي نعرفه, وزعيم البيجيدي يعيش في سلا, ويظهر في التلفزيون المغربي, ويمشي في الأسواق ويأكل مثل الناس في هذا البلد.
لذلك يرجى التقليل من درجة الحماس المبالغ فيه التي تصل بالأصدقاء هنا إلى الخلط بين ما لاخلط بينه, وإلى عقد المقارنات الظالمة بين الأشياء اللاتقارن. نحن لدينا إيمان أخير بهذا البلد أنه مرة أخرى سيشهر ورقة الخصوصية التاريخية التي ظلت له باستمرار, والتي منعته من السقوط بين أيدي الخلافة العثمانية ذات زمن, ومنعته من فتح الأذرع منه لكل الهبات الشرقية التي أتت إلى كل الدول العربية القريبة منا وتمكنت منها, واستعصى عليها المغرب بأمازيغييه ويهوده ومسلمين ومسيحييه ومختلف مكوناته التي تعطيه هذا الاستثناء الخاص من نوعه.
ومع ذلك لا وهم لدينا نهائيا في الموضوع: يوم السبت الماضي خرج الجهاديون في الرباط لكي يطالبوا بإطلاق سراح إخوتهم أولا, ولكي يسبوا ناشطات 20 فبراير ويعلموهن أنهم عدن غير مرغوبات فيهن في المسيرات التي تخرج كل نهاية أسبوع فيما اصطلحنا عليه "البيك نيك الديمقراطي" بالمغرب. لذلك يبدو مشهد بنكيران وصحبه اليوم أرحم بنا بكثير من مشهد الآخرين. وبالنسبة لنا نحن الذين كنا نقول دائما بأنه ليس في القنافذ أملس, نعترف أننا مضطرون لتلمس القنافذ واحدا واحدا اليوم لكي نجد من بينها واحدا سهل الملمس, قابلا لكي نتعايش معه في اللحظات المقبلة من تاريخ هذا البلد, ومن تاريخ الأمة كلها.
مسألة أخرى لامفر منها: سياسيونا الموقرون, أولئك الذين صنعوا للمشهد السياسي المغرب كآبته على امتداد كل هاته السنوات, ما الذي سيفعلونه اليوم لكي يمنعوا البلد من السقوط الأخير؟ لن يفعلوا شيئا. هم أصلا "لاكبدة" لهم على البلد. الوطن بالنسبة لمن كان في مثل حالتهم معادلة بسيطة للغاية لا تشبه معادلاتنا المعقدة نحن الفقراء التائهين: الوطن هو غنيمة سقطت بين أيديهم, تدر عليهم شهريا "قدا وقدا ديال الفلوس", تستحيل شيئا آخر فور أن ينقص المقدار الشهري الذي يدره عليهم.
هكذا وبكل اختصار لعين. لذلك هم اليوم في واد والشعب في واد آخر هم يحضرون بطريقتهم القديمة للانتخابات مثلما جرت دائما في المغرب. الهمة يحشد الأنصار في بنكرير, عباس يعتقد أن ماكينته الانتخابية لم يعلها الصدأ أبدا, الراضي يبحث رفقة بنعبد الله والخياري عن شعب اليسار وما إذا كان لازال موجودا ولم ينقرض بعد, والبقية على السير القديم تسير.
لذلك مرة أخرى لاوهم. القدر الحزين اختار لنا هذا الخيار المرعب: إما الديكتاتورية أو الظلامية, ولا أمل في الأفق القريب أو البعيد أن خيارا آخر سيفرض نفسه علينا. تسالا الكلام, نقطة. سير للسطر.