|
|
|
|
|
أضيف في 11 ماي 2016 الساعة 31 : 10
بنظرة سريعة إلى الواقع السياسي العربي عبر دوله القائمة، رسمياً، تتبدى الحقائق المفجعة التالية التي تتلخص بأن ستاً من الدول العربية تكاد تكون بلا «دولة»، أو بدولة معطوبة أو مطعون في شرعية الحكم فيها، أو أنها، في أقل تعديل، «بلا رأس».
نبدأ من لبنان الذي استطال دهر الفراغ في موقع رئيس الجمهورية فيه حتى بلغ السنتين! مع الإشارة إلى أن مجلس النواب الذي مدد لنفسه مرة ثم مرة ثانية، معطل هو الآخر، ومجلس الوزراء قلما يلتئم عقده، فإذا ما انعقد اشتبك الوزراء، لأسباب قد تبدو متصلة بالتركيبة الطائفية، وبالتالي باستثمار الفراغ الرئاسي ليدّعي «الوزراء الممتازون» أنهم إنما يملأون بهويتهم الطائفية المقعد الشاغر لرئيس الجمهورية الذي لا بد أن يكون مارونياً.
وإذا ما انتقلنا إلى سوريا فإن «الرئيس» ما زال في موقعه، ولكن «الدولة» ممزقة الجنبات، وبعض محافظاتها التي تمتد على معظم مساحتها (في الشمال والشرق وبعض الجنوب) تسيطر عليها منظمات «إرهابية» بحسب التصنيف الدولي، أو منظمات معارضة بالسلاح للنظام القائم، وهي تحظى برعاية وازنة توفرها دول عربية غنية وذات نفوذ مؤثر، فضلاً عن دعم معلن تقدمه بعض الدول الغربية. وبدل الجيش الوطني أو في مقابله، هناك «جيوش» تحمل أسماء مستخرجة من التاريخ بدءاً بالخلافة («داعش») وصولاً إلى المماليك فالحكم العثماني، من دون أن ننسى التتار والتركمان.
في المقابل، فإن النظام القائم في دمشق يحظى برعاية مباشرة ودعم عسكري فعال من روسيا، فضلاً عن إيران التي كانت سبقت ثم اكتشفت أنها لا تكفي لمواجهة التحالف الدولي الذي يساند أشتات المعارضات، وعلى رأسها «داعش» و «النصرة»، وهما عدوان يجمعهما العداء المشترك للنظام ويفرق بينهما الصراع على دولة «خلافة المسلمين» عندما يعاد بعثها.
في البداية كان الغرب جميعاً، بالقيادة الأميركية، يقاتل النظام متكئاً على تركيا كقاعدة خلفية للمنظمات المقاتلة، وتحديداً «داعش» وبعض الفصائل التي انشقت عن الجيش النظامي، فرعتها تركيا وتولت تمويلها دول الخليج العربي، حيث شكلت قطر الطليعة قبل أن تنضم السعودية إلى هذا التحالف فتصير الرياض هي المرجعية.
على هذا ففي سوريا رأس لدولة ممزقة دولاً، لكل منها «جيشه» ومصدر تمويله وميدان تدريبه، خصوصاً وقد استجاب الأردن فتقاسم مع تركيا مهمات الإعداد والتدريب.. من دون أن يقطع مخابراتياً مع سوريا، ومن دون أن يتجاوز أو يخرب على ركائز التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل، بداية، ثم مع دول النفط العربي المعززة بالدعم التركي المفتوح.
أما في العراق، فكثرة من الرؤساء والمجالس والمناصب والجيوش ولا دولة! فبذريعة تدعيم أو ترميم الوحدة الوطنية، صار للعراق رئيس للدولة، بلا صلاحيات فعلية، هو بالضرورة كردي، ورئيس للحكومة ـ وهي مركز الحكم ـ من الطائفة الشيعية (التي تشكل أكثرية عددية) مع رئيس لمجلس النواب سني المذهب. ويجري تقاسم الوزارات والإدارات والتنظيمات العسكرية على أساس التوازن الطوائفي، وهو بين أسباب الفوضى الهائلة، بحيث تعرض العراق إلى منْهبتين مخيفتين بعد إسقاط نظام صدام حسين: الأولى تولاها جيش الاحتلال الأميركي والمندوب السامي الذي عينته واشنطن وريثاً للطغيان، والثانية بعد تقسيم المغانم كما الوظائف على القواعد الطوائفية والمذهبية والعنصرية... قبل أن يستقل الأكراد بإقليمهم في الشمال ثم يتقاسموا السلطة المركزية (مع العرب) في بغداد.
ولقد تعاقبت على السلطة حكومات عدة، ويصعب الجزم حول أي منها كان الأقدر على النهب مع ادّعاء العفة، ولكنها خرجت من الحكم مدانة جميعها. وها هو العبادي الذي أعلن «الثورة ضد الفساد» وحلَّ حكومته يحاول ـ عبثاً ـ تشكيل حكومة جديدة من غير السياسيين فتتشابك الخطوط بين واشنطن وطهران، وتدخل الرياض على الخط، في حين تمتلئ سماء بلاد الرافدين بالطائرات الحربية الأميركية والبريطانية والفرنسية والألمانية والأوسترالية التي تبحث عبثاً عن جيش «الخليفة البغدادي» فتتوه عنه ولا تصيب منه مقتلاً، على امتداد سنتين طويلتين من إعلان الحرب عليه!
ولكي نصل إلى آخر الخط شرقاً، اليمن، لا بد أن نلحظ أولاً أن «دولته» قد تمزقت إرباً. الرئيس السابق، أو «المخلوع»، علي عبدالله صالح، ما زال يمارس سلطاته على العديد من أجهزة الدولة، وأهمها الجيش، وفي السياسة على تنظيم الاتحاد الشعبي الذي أخذته الضرورة إلى التحالف مع تنظيم «أنصار الله» بعدما قاتله لسنين طويلة، لمواجهة السعودية التي تبنّت نائبه فجعلته رئيساً... ثم ساعدته على شق الجيش بتزكية النعرة الانفصالية الجنوبية، قبل أن ترسل طيران التحالف في «حملة إعادة الأمل» ليقصف مراكز العمران في اليمن السعيد.
وفي حين حاولت السعودية إسباغ لون مذهبي على الصراع وتصويره وكأنه بين «الزيود» في الشمال و «الشوافع» في الجنوب أساساً وبعض الشمال، تمهيداً لاتهام إيران (ومعها وعبرها «حزب الله» في لبنان)، فإنها عززت بعض الفصائل المقاتلة في الجنوب ومكّنتها ـ مثلاً ـ من الانتصار في المواجهة مع «القاعدة» في المكلا. وقيل في تفسير هذه النجدة التي تجيء خارج سياق الحرب الدائرة في اليمن إنها تمهيد مبكر لانفصال متأخر للجنوب تحت الرعاية السعودية، بما يمكّن المملكة المذهبة من «شراء» حضرموت أو ربما الجنوب اليمني بأكمله، لتحقيق حلمها بإيجاد معبر مباشر إلى بحر العرب ومن ثم إلى المحيط.
لا ضرورة لشرح مطول حول ليبيا ومصائر «الدويلات» التي تتنازع على ثروة النفط الغزير فيها. لقد أقيمت في ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية مملكة اتحادية تجمع بين ثلاث ولايات: برقة في الشرق وعاصمتها بنغازي، وطرابلس في الغرب، وسبها في الجنوب. وعندما قام معمر القذافي ورفاقه الضباط صغار الرتبة بالثورة في الفاتح من أيلول 1969، تم توحيد الولايات (من فوق)، لكن القبائل حافظت على منطقها الجهوي، خصوصاً أن نظام القذافي قد اختار لنفسه عاصمة للمركز في سرت على «الحدود» بين الشرق والغرب. وهكذا، عندما انهار نظام الرجل الواحد ولجانه الثورية ومعها اللجان الشعبية، عادت «الجهات» إلى تاريخها مع «الولايات الثلاث». ومن هنا صعوبة الصياغة الجديدة للحكم في ليبيا. وهل يكون مركزياً، أو تعتمد اللامركزية ولا «ملك» يجمعها بنسبه الشريف كما آخر ملوكها السنوسي؟
ونصل إلى تونس التي كانت انتفاضتها أواخر العام 2010 بشارة اقترابنا من زمن الثورة: لقد عجزت هذه الانتفاضة المجيدة عن بناء دولتها. كان الجمهور الذي ملأ الشوارع بغضبه المدوي بلا قيادة موحدة وذات برنامج محدد لإعادة بناء الدولة. وكان «الإخوان المسلمون» أقوى الأحزاب تنظيماً، ولكنهم لم يكونوا مقبولين كقادة لتونس الجديدة. ولم تكن الأحزاب الوطنية والتقدمية ومعها النقابات ذات التاريخ المضيء (الاتحاد التونسي للشغل) جاهزة ومؤهلة لاستلام السلطة.
هكذا مضى الصراع بطيئاً، مع حرص من جميع القوى على اختلافها على عدم المس بالدولة. حاول «الإخوان المسلمون» فووجهوا بالرفض، وقرر قائدهم العاقل الغنوشي الاكتفاء بالمشاركة. لكن التيار الغالب شعبياً لم يكن مستعداً لقبولهم في موقع القيادة.. ولم تكن القوى الجديدة، واليسار تحديداً، مؤهلة لتسلم السلطة. هكذا أعيدت هذه السلطة إلى بقايا البورقيبية. وانتهى الأمر بانتخاب تسعيني من رفاق الحبيب بورقيبة رئيساً للدولة الجديدة. وكان أول رد فعل انشقاق حزبه.. في حين ساعدت العمليات الإرهابية التي نفذها مجندو «داعش»، على الأرجح، على تماسك أهل الماضي والحاضر، اضطراراً، لمواجهة هموم اليوم، مرجئين الاهتمام بالمستقبل إلى فرصة جديدة.
في المقابل، أغلقت الجزائر أبوابها على نفسها في ظل إدامة الحكم المؤقت لرئيسها الذي يرفض أن يغادر منصبه إلا إلى القبر، فلا هي تتحرك بالرفض أو فالقبول، ولا هي تعلن موقفها إلا بالتضاد مع المغرب الذي اختارته عدواً أولاً وأخيراً. من قبل، كانت العقيدة الإيمان بالأمة، وشرطها العروبة، وبجهد الشعوب، لا بالثروات المخبوءة في باطن الأرض.
لكن ذلك عصر مضى، وها نحن في زمن الضياع: نخرج من العروبة بحثاً عن الإسلام فإذا الإسلام أصناف وأنواع، بعضها أميركي الهوى، وبعضها لا يجد حرجاً في صداقة إسرائيل، والبعض الآخر ضائع في خضم الصراع الذي أعيد إحياؤه بين السنة والشيعة، فإذا دار الإسلام مدماة نتيجة حرب بلا نهاية بين المؤمنين، يستفيد منها أعداء العرب والمسلمين جميعاً بعنوان إسرائيل!
|
|
2457 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|