سرحت إلموندو الإسبانية، وهي من هي في المشهد الصحفي الإسباني والإسبانوفوني الذي يمتد على طول أمريكا اللاتينية وغيرها، قرابة المائتي عامل دفعة واحدة بسبب الأزمة التي تضرب الصحافة الورقية، وبسبب عدم قدرة المؤسسة – وهي عملاقة – على مواصلة تحدي التطور الذي يعرفه الإعلام في عالمنا اليوم، والذي يجعل الاستمرار في الورقي من الإصدارات أمرا يشبه الإعجاز يوميا.
هذه ليست مرة أول تقوم فيها مؤسسات إعلامية إسبانية مرموقة بفعل مماثل، فمنذ حوالي السنوات الأربع كنا وفدا صحافيا مغربيا زار كبريات صحف إسبانيا، من « الآس » حتى « إلباييس » مرورا ب « إلموندو » وغيرها، وكانت مفاجأتنا بل صدمتنا كبيرة حين كنا نجد في استقبالنا في باب كل مؤسسة من تلك المؤسسات صحافيين بصفارات في أفواههم يصرخون إما احتجاجا على تسريحهم أو على نقلهم إلى مهام أخرى أو إلى مكاتب ثانية بسبب الأزمة التي تمس الصحافة االورقية.
في المغرب نبدو كمن يمثل دور من لا يستوعب ما الذي يقع، ونطمئن بعضنا البعض بجملة غاية في الغرابة والسخرية مفادها أن الورقي مستمر وأنه لن يتوقف وأن الحاجة إليه ستبقى دائما قائمة، وبالتالي فلاداعي للتسرع أو الاستعجال في إصلاح أزمته أو إدارتها على الأقل في السنوات المنظورة.
هذا الأمر يسمى دفن الرأس في الرمال، وهو عادة مغربية صميم، نعرفها منذ القديم ولا تدهشنا كثيرا خصوصا إذا ما ارتبطت بتغييرات تمس دخلا شخصيا ومسارات عائلية وأمورا مرتبطة بمستقبل أسر بأكملها، لكن الأمر قطعا لايمكن أن يستمر على هذا المنوال.
لايمكن لأن الاستثمار في القطاع الصحافي المكتوب بلغ حده الأقصى، ولأن الإشهار أدار الظهر بطريقة أقل ما يقال عنها إنها محتقرة للمقاولات الصحفية المكتوبة، ولأن سوق القراءة الصحفية في المغرب توقف عن النمو بعد أن تم إغراق السوق بعديد التجارب التي كان واضحا أنها تهدف فقط إلى ماوصلنا إليها اليوم: جعل هذه الأزمة واقعا متحققا.
وماذا بعد؟
أمامنا حل وحيد وواحد : أن نفهم أن الوقت الآن هو وقت مواجهة لهاته الأزمة بكل الطرق على الأقل من أجل إنقاذ مسارات صحف وعمال بها. ويجب أن يعترف من هندسوا منذ سنوات للمجال عمليات تطوره أنهم فشلوا فيه فشلا ذريعا، وأن كل ماقالوه لنا من تنظيرات ومناظرا وبقية التفاهات بعيدا عن الممارسة الميدانية الواقعية واليومية هو أمر بقي تنظيرا لا أقل ولا أكثر. كلاما يلقى في الهواء الطلق ولا يصل آذان الموجه إليهم، ولا يقنع حتى من يتفوهون به، خصوصا إذا كان هؤلاء الذين يتفوهون به يقولونه عن غير علم، بل عن تطاول وكفى.
على الدولة اليوم مسؤولية ثابتة في حماية المكتوب من المقاولات الصحفية إذا كانت تريد الاستعانة بهاته المقاولات في مسلسل الانتقال الديمقراطي الجاري في البلد. أو عليها في حال العكس أي حال الاستغناء عن هاته المقاولات أن تعلن ذلك وأن تسرع إعلان الوفاة.
العيش في مرحلة الاختناق البين – بين هاته لن يساعدنا على شيء. هو سيطيل عمر عذاب مهنتنا لا أقل ولا أكثر
المقاولات الصحفية – الجادة أقصد وهي معروفة ومعدودة على رؤوس أصابع- عليها أن تبدع أساليب مواجهتها للأزمة. العيش على أساطير الأولين والآخرين وترديد الكلام التاريخي لن يتقدم بنا إلى الأمام.
لدينا إعلام جديد الآن يتبلور أبدع فيه من سبقونا دوما إلى كل شيء، ويجب أن نقدم عبره إجابتنا على كل أسئلة المهنة اليوم، وأن نتمكن من الخروج به من دوامة الرداءة والتفاهة والسطحية التي يراد إغراقه فيها، وأيضا إخراجه من دائرة المزايدات السياسوية التي قتلت المكتوب سابقا والتي ستقتل الإلكتروني أو الجديد لاحقا إذا ما لعبت معه اللعبة ذاته التي لعبتها مع سلفه.
علينا أيضا كعاملين في المجال أن نقدم اقتراحاتنا العملية للخروج من الوضع، لا أن نبقى متفرجين على سفننا وهي تغرق الواحدة بعد الأخرى، وننتظر غرقها لكي نبكي على أطلالها أو لكي نضع الشارات ونكتب البيانات ثم نمضي لإغراق أشجاننا في أقرب المحلات التي تظل مفتوحة الليل كله
هذه الأزمة التي يعيشها مشهدنا الصحافي المغربي صنعناها جميعا، ولن يحلها طرف واحد أبدا
سنحلها جميعا أو سنزيدها استعصاء جميعا، وقديما قالها الشاعر لمن لازال يتذوق بعض الشعر : لقد أسمعت لو ناديت حيا…” والتتمة معروفة ويحفظها عن ظهر قلب من تناديه إذا كانت به بعض الحياة طبعا.
ملحوظة لاعلاقة…
بعد العودة من مصر وجدت على مكتبي مفاجأة سارة للغاية: نسخة من العدد الأول من الجريدة الساخرة « بابوبي » التي يشرف عليها الزميل خالد كدار.
أتمنى كل الخير لهاته التجربة، فأنا مؤمن بأن السخرية هي الشيء الجاد الوحيد في هاته الحياة، ومؤمن بأن هناك مكانا شاسعا لجريدة ساخرة في المغرب.
حظ سعيد للزملاء في « بابوبي »
بقلم: المختار لغزيوي.