يونس دافقير
تولد بعض الأفكار بحمولة ثورية، لكن إما أنها تخطئ الزمن والتوقيت، أو أنها تفتقد للإرادات القادرة على تحويلها إلى ممارسة عملية. ينطبق ذلك مثلا على فكرة لوائح الترشيح المشتركة في الإنتخابات التي حاولت أحزاب الكتلة الديمقراطية تنفيذها سنوات التسعينات، لكنها ولأسباب ذاتية وأخرى موضوعية لم تنجح في بلورة الفكرة التي كان من شأنها أن تحدث رجة قوية في مشهد انتخابي كان يخضع لرقابة شديدة من طرف من كانت تسمى حينها بأم «أم الوزارات».
كان تأسيس الكتلة الديمقراطية في حذ ذاته حدثا سياسيا، فلأول مرة يجتمع الشيوعيون القدامى ممثلين في التقدم والاشتراكية، وعقلانيو اليسار الماركسي ممثلا في منطمة العمل الديمقراطي الشعبي مع الإتحاد الاشتراكي في تكتل سياسي واحد بعد سنوات من التنافس والصراع حول احتكار الشرعية الاشتراكية، وزادت القيمة المضافة لهذا الحدث حين انسحب حزب الاستقلال من الحكومة نهاية الثمانينات ليلتحق بالعائلة اليسارية محدثا تعديلا قويا في ميزان قوى الصراع السياسي.
وسينصف التاريخ أحزاب الكتلة بمقياس ما حققته من ضغط سياسي ساعد على تهيئة الأجواء التي ستؤسس لحكومة التناوب التي قادها الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، لكن الأكيد أن هذا التحالف غلبت عليه الأنانيات الذاتية الضيقة فيما يتعلق بالترشيحات المشتركة في الإنتخابات، وخصوصا ذلك التنافس التاريخي بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي الذي لو تم تجاوزه في تلك السنوات، لما كان عبد الرحمان اليسوفي بحاجة لقيادة أغلبية برلمانية هجينة يحشر فيها حزبي الحركة الشعبية والتجمع الوطني للأحرار.
وقد كان لابد من انتظار عشرين سنة حتى تتحقق فكرة الترشيحات المشتركة في الممارسة الحزبية بالمغرب، والفضل يعود هذه المرة لأحزاب الاشتراكي الموحد، والطيلعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الإتحادي التي دخلت الانتخابات الجماعية والجهوية تحت يافطة فيدرالية اليسار، وربما تعيد التجربة نفسها في انتخابات السابع من أكتوبر المقبل.
وقد أبانت هذه التجربة غير المسبوقة في تاريخ اليسار المغربي والأحزاب السياسية ككل عن أن العائلة اليسارية يمكن أن تتجاوز حالة الشتات التي تستنزف قواها وقدرتها على التأثير في القرار السياسي الوطني، وبعيدا عن اجترار خطابات توحيد اليسار كما جاء في اللقاء المشترك الذي عقده حزبا التقدم والاشتراكية والإتحاد الاشتراكي الإربعاء الماضي، يظهر أن تقديم درس نموذجي في الوحدة اليسارية هو أمر ممكن الآن وهنا، وبغض النظر عن حكاية الوزن الجماهيري والانتخابي لهذا الحزب أو ذاك.
وبعيدا عن هذه القيمة الرمزية، أبانت تجربة الترشيحات المشتركة لفيدرالية اليسار عن مردودية عملية غير متنازع حولها، ففي انتخابات الرابع من شتنبر الماضي احتلت الفيدرالية الرتبة التاسعة في سلم ترتيب الأحزاب الثلاثة والثلاثين التي شاركت في السباق الإنتخابي، بل واستطاعت إما أن تحصل على الأغلبية التي أهلتها لقيادة بعض الجماعات أو تحتل موقعا يسمح لها بأن تكون طرفا أساسيا في تحالفات تشكيل مكاتب المجالس الجماعية.
وتسمح التعديلات التي سيتم إدخالها على القانون التنظيمي للأحزاب السياسية المعروض حاليا على المجلس الوزاري، لفيدرالية اليسار بأن تعيد تجربة النجاح النموذجي للوحدة اليسارية في الانتخابات، فعكس انتخابات نونبر 2011 التي لم يسمح فيها للأحزاب السياسية بتشكيل تحالفات انتخابية في شكل اتحادات حزبية، جاء تعديل مشروع القانون التنظيمي ليسمح بتأسيس تحالفات انتخابية حزبية تنتج عنها لوائح ترشيح مشتركة.
والمؤسف أن اليسار لن يكون بإمكانه تعميم هذه التجربة لتشارك فيها كل مكوناته، ففضلا عن الحساسيات الذاتية التقليدية، تتباعد المسافات بين اليساريين بفعل تعقيدات المرحلة السياسية التي يعيشها المغرب، فالتقدم والاشتراكية اختار تحالفه السياسي مع العدالة والتنمية، والاتحاد الاشتراكي هو اليوم أقرب إلي حزب الأصالة والمعاصرة منه إلى باقي اليسار، وفي مرلحة الحملة الإنتخابية سيضطر اليساريون لأن يتنازعوا من أجل نيل حصتهم من نفس السوق التي يرتادها زبائن الخطاب الاشتراكي، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلي تشتيت أصوات اليسار لفائدة اليمين المحافظ.
ومن دون شك لم يمت اليسار ولم يتم تأبين الفكرة اليسارية كما يدعي ذلك مروجو خطاب آخر حول موت السياسة، فالمد الديني المحافظ لا يعمل سوى على توفير الشروط الموضوعية للحاجة إلى اليسار، والاتساع المتزايد في مجالات تسييس موضوعات لم تكن من قبل في خانة السياسة مثل الحريات الفردية وقضايا الإرث والحمل الإرادي … يفتح أمام اليسار مساحات اشتغال لا يمكن أن يلجها غير اليساريون دون أن يزاحمهم فيها حتى الليبراليون الذين لا يملكون جرأة المبادرة في هكذا موضوعات خلافية…
فوحدة اليسار حلم قابل للتحقق، واستعادته لتوهجه أمر ممكن أيضا، لكنه يحتاج لأن تكون لدى اليساريين تلك الرغبة في الأمل والقدرة عليه، وأن يمتلكوا بالأساس تلك النظرية التي تنير طريق الممارسة، وليس الشعارات الشعبوية التي تجعلهم ينقادون وراء الشارع بدلا من أن يقودوه.