عرفت الرجل في بحر الثمانينيات، وأنا أجوب متاهات الشرق الغاضب من دمشق إلى بيروت، ودليلي غضب مغربي حملته من صحراء وريف وما بينهما، أنافح به وأفاخر، كنت يافع السن نعم، لكني حملت من بلدي غضب الأجداد وبعض الدعوات، فقد كنت ومازلت متخلصا من أسر الشرق وانبهار الغرب، فوطني أعطاني الاكتفاء في الحالتين، حتى وإن كان للشرق سحره الخاص وحزنه المترامي الأطراف، ولا غرو ولا غرابة، فحينما تخيم دويلة إسرائيل يخيم الحزن والغضب على الأشراف وعلى المشارق والمغارب… فشكرا لكيان مقيت مغتصب، أعطى للعرب الشرفاء دوام الغضب!!
هناك التقيت بقامة متفردة في أرض الغضب العربي "مظفر النواب"، هذا الشاعر الغاضب على الدوام، والذي كلما استشهدت بأبياته الشعرية نعته بشاعر الغضب العربي النبيل… وكم كان مبهراً حدّ الخرافة أن تجالس رجلاً سمعت أشرطة شعره بتهريب أين منه تهريب المخدرات… آنذاك كان التهريب شريفا وأصيلا.. ومن أشهر قصائده التي كان يحفظها فضلاء الغضب غضبئذٍ: "القدس عروس عروبتكم، فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها، ووقفتم تسترقون السمع على صرخات بكارتها..!! وكان يكفي ترديد هذا القصيد للحصول على بطاقة الانتماء لقبيلة الثوار.. قصيد استقطب من الشباب ما لم تستقطبه الفصائل السرية وأحزاب المعتقلين السياسيين، فشاعر الغضب والحزن "مظفر النواب" عرف سجون العراق أكثر مما عرف موطنه العراق، سجن مرات، وحكم عليه بالإعدام، وأي حزن أكثر من أن يكون بلد الشعراء يحكم بإعدام الشعراء، لكن في الأزمنة الوضيعة والدنيئة لابد أن يتعرض الأحرار للجور والظلم، وقديما قيل "وأيُّ زمان على الأحرار لم يجُرِ"… انضم شاعرنا إلى الحزب الشيوعي، وحينما رأى أن الحزب لم يعد يمثل غضب الناس، ترك الحزب غاضبا وهو يردد حكمة خالدة يقول فيها "حينما لم يبق وجه الحزب وجه الناس، انسحبت"..!! هذا في وقتك "يا مظفر"، أما الآن فلا وجه للأحزاب فكيف إذا تعلق الأمر بوجه الناس.. وكم أنا شديد التأكد من نبوءة الشعراء، فها هو شاعرنا قال في الثمانينيات "إنَّ هذه الأمة لابد أن تأخذ درسا في التخريب"… ألا ترون معي أن دروس التخريب تجاوزت الاحتياج، وبرغم هذا التخريب المعاق والمعوِّق لم يقتل الغضب النبيل كما كانت تود المخابرات والسفهاء، وهذا ما تنبَّأ به شاعرنا في ذاك الزمن لما قال: "إننا أمة لو جهنّم صُبَّت على رأسها واقفة"..!! ولا يفوت شاعرنا أن يقول "تتوحَّم هذه الرجعية ليل نهار… فلا تنسوا تزييت بنادقكم"… هذا في زمن الوحم "يا مظفّر"، ماذا عسانا نقول في زمن الإنجاب..؟؟
وبرغم أن شاعرنا "مظفر" كان ممثلا شرعيا وهائلا للأحزان كما يقول: "ما مِنْ دموع أداوي بها حضرات الهموم الجميلة..!! وليسمع البلهاء الذين ألفوا سماع "حضرات السادة"..!! وبكل هذه الأحزان والهموم الشريفة والنظيفة التي استهلكت كل عمره، كان في مرات كثيرة، كان طريف الشعر مليحه، ففي ذاك الزمن لما كان اللئيم "هنري كسنجر" يطبق مؤامراته على كل حلم عربي ويستقبل بفخامة عند الحكام العرب، معاذ الله، قال مظفر "من كان مع هنري فليرفع ياقته، ومن كان مع الثورة فليرفع قبضته"… حينما رأيت أخيرا "هنري" فوق كرسي متحرك في اجتماع مع "بوتين" بـ "موسكو"، تذكرت أبيات "مظفر"… لكن أين الملاكم..؟؟ أو أما آن لهذا الشيخ الكسيح أن يستريح من التآمر، ويترك أحفاده ليقوموا به بطريقة أجمل..!! ومن طرائف أشعار المظفر وهو الذي عاش كل عمره في المنافي والسجون، يزعجه أن تقفل دوائر الأمن نوافذها… لأنهم سيبدأون في تعذيب مواطن، وفي أحسن الحالات إهانته، لذلك يقول: "أحبُّ الطُّرق… ويزعجني باب خمّارة أغلقت… ونوافذ دائرة الأمن". أتذكر في إحدى الأمسيات أصر أحد الحضور أن يسمع الأخبار التلفزية… أجابه "مظفر": "إنه المذيع المسائي يلقي النفايات مبتسما..!!" اليوم كثرت النفايات كما اتسعت ابتسامات المذيعين..!!
واليوم حين أرى أن كل أنواع السلاح والقنابل تلقى على رؤوس العرب وكأنها صنعت تخصيصا لهم، إيران الفارسية تقتل والأتراك العثمانيون يقتلون والروم، أي الغربيين يقتلون، تذكرت ما قاله المظفر قبل هذا:
يَا بَلَدِي يا سُوقَ اللَّحْمِ لكُلِّ الدُّول الكُبْرى
يا بَلَداً يتناهشها الفُرْسُ
ويجْلِسُ فوق تنفُّسِها الوَالي العُثماني
وغِلْمان الرُّوم
التقيت خلال زيارتي الأخيرة للرياض بصديق مشترك سألته عن "مظفر" وهو المداوم على زيارته، فأخبرني أنه أصبح عاجزا عن الحركة والكلام واستبدَّ به مرض "الزهايمر"، ويعيش فقرا، لا معين ولا صديق، بكينا منفردين.. وكان العزاء: في الزمن النذل هكذا يموت الأحرار والشرفاء.. وإن كنت قد ذكرت الصديق بأن "المظفر" قد توقع قديما أن يموت غريبا كالشبح لما قال:
أُصابِحُ الليلَ مصْلوباً علَى أمَلٍ
ألاَّ أَموتَ غريباً ميتَةَ الشَّبحِ
يا جنَّة مرَّ فيها اللَّه ذاتَ ضُحًى
لعلَّ فيها نوَّاسيا على قدحي
لقدْ سَكِرْتُ منَ الدُّنْيا ويُوقظُنِي
ما كَان مِنْ عِنَبٍ فيها ومِنْ بلَحِ
يبقى فقط أن أقول: يا "مظفر"… هم الذين عاشوا أشباحاً وسيموتون أشباحا… ويكفي ما أعطيت لذاكرة الشرفاء القادمين……..!!
وكل شرفاء وأنتم……………!!
بقلم ادريس ابو زيد