تضحكني وتثيرني وتستفزني الضجة التي تثار حول المرض المحتمل للنجمة العالمية أنجلينا جولي والنقاش الدائر حول كونها ستذهب الجنة بفضل أعمالها الإنسانية العديدة أو النار لأنها “كافرة”… أصحاب الفئة الثانية قرروا أن جولي كافرة وانتهى الأمر… ليبدأ التخلف. هؤلاء طبعا لا يدركون أنهم في النهاية قرروا أن يأخذوا مكان الله وأن يصنفوا، بدلا عنه، من هو مؤمن ومن هو كافر. أن يصنفوا ما هو مقبول من أعمال الأفراد وما دون ذلك. استحوذوا على صكوك ملكية الجنة وقرروا أن يدخلوا إليها من يشاؤون وأن يطردوا منها الآخرين حسب معاييرهم الخاصة. ألا يفترض أن الله وحده يعلم ما يْقبل من أعمالنا وأنه وحده يقرر في شؤون الجنة والنار؟
البعض الآخر تساءل إن كانت أنجلينا جولي تستحق دعواتنا لها بالشفاء على أساس أن مرضى سوريا وغزة والعراق أولى بالدعاء. طبعا هؤلاء المزايدون لا يتذكرون الدعاء لمرضى العراق وسوريا وفلسطين إلا لكي يزايدوا على الآخرين حين يتعلق الأمر بضحايا أو أشخاص ينتمون للدول الغنية. ولعل أنجلينا جولي فعلت لفقراء هذه البلدان أكثر مما فعل وهو جالس خلف حاسوبه يحصي على الناس دعواتها ومواقفها. وعلى العموم، فمن حقه أن يتقدم بالدعاء حصريا لضحايا العراق وسوريا وفسطين (نأمل طبعا أن لا يستثني المسيحيين منهم) ومن حقنا أن نتضامن مع الإنسانية…
تعويض الله في الحكم على إيمان الأفراد يتجاوز جولي ليصبح ظاهرة عامة. على المواقع الاجتماعية، كل شخص يعطي لنفسه الحق في الحكم على كفر وإلحاد وإيمان الآخر. الآن، لنسأل هؤلاء: هل سنعتبر إذن كل مجرمي الحروب وكل المختلسين الناهبين لأموال الغير وكل القتلة وكل المغتصبين وكل المعتدين جنسيا على الأطفال الذين ولدوا مسلمين (هم في النهاية لم يختاروا الإسلام بل ولدوا في بيئة مسلمة) أكثر تقوى وأفضل مكانة من شخص ليس مسلما لكنه، على ما يبدو، متشبع بقيم الإنسانية والعطاء؟
يعود بنا هذا لنزعة “الجهاد بالقلب” (وذلك أضعف العنف، لأن بعضهم مستعد للجهاد باليد إذا امتلك لذلك سبيلا) على صفحات الجرائد الإلكترونية والمواقع الاجتماعية. يحدث أن يقدم شخص تصورا لا يسير مع الاتجاه العام، وخاصة حين يتعلق الأمر بمواضيع تعتبر حساسة أو طابو: علاقة الأفراد بالدين، الحرية الجنسية، المثلية، إلخ. من المقبول ومن الطبيعي أن يتعرض هذا الشخص للانتقاد لأنه لا يقدم حقيقة مطلقة. من الطبيعي أن لا يتفق معه البعض. لكن غير الطبيعي أن يعبر هؤلاء عن اختلافهم بعنف لفظي رهيب: عبارات السب والشتم والكلام القدحي وإقحام العائلة والحياة الشخصية وهلم انحطاطا.
كلما قرأت مقالا أو شاهدت فيديو أو مجرد بوست أعجبني كله أو بعضه، وتصورت أنه قد يزعج الكثيرين، أهتم بقراءة التعليقات. وهنا، أنبهر بكم العنف الذي يعبر عنه الكثير ممن لم يعجبهم موقف الشخص المعني. وأكثر ما يكون مدعاة للسخرية، لكن أيضا للوجع، هو حين يستعمل معلق ما (غالبا تحت اسم مستعار وصورة غير حقيقية) كل عبارات السب الممكنة، معتبرا أن المستهدَف بقذائفه هو عدو للإسلام وللدين وللأخلاق. فهل بهكذا عبارات يعتبر هذا المعلق نفسَه أكثر إيمانا وأكثر تدينا وأكثر حفاظا على الأخلاق؟ لماذا لا يعبر عن اختلافه بأدب؟ ولماذا، وهذا الأهم، لا يقدم وجهة نظر أخرى تغني النقاش؟
في إحدى حلقات برنامج “حديث العرب”، أشار الضيف ابراهيم البليهي إلى تفسير قد يكون له نصيب كبير من الصواب. إنه الجهل. الجهل يولد العنف والإقصاء. كلما ازداد جهل الشخص، تزكت لديه القناعة بأن ما يعتقده هو الحقيقة المطلقة الوحيدة لأنه لا يعرف غيرها (وقد لا يعرفها نفسها بالشكل المناسب). لأنه لا يدرك أن الحقيقة في النهاية ليست مطلقة وأن هناك عوالم أخرى كثيرة وليس فقط تلك العوالم المحدودة التي يعرفها. لنتأمل كيف أننا، كلما أبحرنا في دروب المعرفة، نتأكد أننا نحتاج لمزيد منها… لكن الجاهل يكتفي بجهله وهو يعتقد نفسه عارفا بكل شيء… بالحقيقة الوحيدة التي اطلع عليها والتي يعرفها في الغالب بشكل سطحي. جهل مركب… وهذا الجهل هو الذي يؤدي في النهاية للعنف اللفظي والجسدي أحيانا لأنه يترجم ارتباك الشخص أمام مواقف لا يملك الإمكانيات المعرفية لانتقادها بالشكل السليم. فيسقط في تناقض صارخ: يدافع عن الدين وعن الأخلاق، بشكل لا أخلاقي…
سناء العاجي