يروي لي المجاهد الجزائري الرائد لخضر بورقعة، وهو أحد القادة الميدانيين البارزين في الثورة الجزائرية، انه كلما يرى حفيدته الطفلة ابنة السنوات الخمس تبادره بهتاف “فلسطين الشهداء… فلسطين” ليقول لي ان حب فلسطين في الجزائر عادة يتوارثها الاحفاد عن الاباء عن الاجداد….
ويروي لي اصدقاء جزائريون كيف ان الجمهور الجزائري الشديد الشغف بلعبة كرة القدم، والشديد الحماسة لمنتخبه الوطني، وجد نفسه منحازاً لمنتخب فلسطين في مباراته مع منتخب الجزائر، وكان الجزائريون يصفّرون (وهي اشارة استنكار) كلما تقدم لاعب جزائري من المرمى الفلسطيني ويهتفون “فلسطين لا تخسر في الجزائر”.
اما ملاعب الجزائر الرياضية فقد تحوّلت إلى “ميادين انتصار لفلسطين” ومشجعو الفرق الرياضية يذهبون اليها وهم يحملون اعلام فلسطين جنباً إلى جنب مع اعلام الجزائر…
وفي “مؤتمر شباب الجزائر” الذي دعت اليه “حركة البناء الوطني”،وشارك فيه خمسة الاف شابا وشابة من كل ولايات الجزائر، وكان لي كلمة الشرف في افتتاحه، لم نسمع، انا ورفيقي في الرحلة الحاج عبد العزيز مجبور، هتافاً أو نشيداً أو تصفيقاً إلا لفلسطين والمقاومة من اجل فلسطين، وقال لي المناضل احمد الدان امين عام حركة البناء “ان الجزائريين بكل تياراتهم ومشاربهم واحزابهم لا يجتمعون إلا على قضية فلسطين ويعتبرونها مقياساً لموقفهم من أي نظام أو حزب أو جماعة….”
هذه الحماسة لفلسطين في الجزائر واقطار المغرب العربي الكبير تذكرنا بحماسة مماثلة، عاشها المشرق العربي في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الفائت، قبل ان تأكلها الفتن والانقسامات واشكال الاحتراب السياسي والحزبي والسلطوي والدموي، ومرد هذه الحماسة بالطبع يعود إلى تراث يعتز به الجزائريون، وهو تراث ثورات التحرير المديدة ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي على مدى 131 عاماً، ويقول هنا عبد الكريم رزقي، احد الوجوه الجزائرية العاملة بفعالية من اجل القدس وكسر الحصار على غزة، وأحد المشاركين في “اسطول الحرية” ، “ان الاستعمار الاستيطاني في فلسطين سيزول كما زال شبيهه في الجزائر مهما طال الزمن”.
لكنه ليس صعباً ان تلاحظ ان تراثاً أخرا يتحكم بسلوك الجزائريين عموماً، وهو تراث الحساسية المفرطة الرافضة لكل ما يؤدي إلى استعادة دورة العنف والتوحش والغلو التي عاشتها الجزائر على مدى عشر سنوات قبل ان يدخل الرئيس بوتفليقة في استراتيجية “المصالحة والوئام والاستقرار…”
لا يكابر جزائري واحد في أن بلاده تعيش أزمة على كل المستويات، في السياسة والاقتصاد، في التربية والثقافة والاجتماع، لكن جزائرياً واحداً لا يقبل بعودة ما يسمى “الجماعات المسلحة” إلى البلاد رغم ان جهات عديدة، خارجية تحديداً، تحاصر الجزائر من حدودها جميعاً بخطر مماثل لخطر تلك الجماعات التي، كما يقول العالمون في شؤون الجزائر ومنهم الصادق بوقطايا عضو المكتب السياسي لجبهة التحرير الجزائرية، “لن تجد لها اليوم بيئة حاضنة في مجتمع اكتوى بنار الاحتراب الاهلي والعنف الدموي ودفع ثمنها اكثر من مئة الف شهيد، ناهيك عن كل اشكال التأزم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي التي رافقتها..”
ومن اجل فهم الموقف الجزائري العام، الشعبي والرسمي، من مجمل قضايا المنطقة، يجب الأخذ بعين الاعتبار هاتين الحساسيتين أولهما حساسية الاستقلال والمقاومة التي تجعل الجزائريين يرفضون أي عدوان خارجي او تدخل استعماري، ويفاخرون انهم في حربهم التي استمرت عشر سنوات لم تحاول جهة جزائرية واحدة ان تستقوي بالاجنبي على جهة أخرى، كما تجعل الجزائريون يرفضون المس بأي مقاومة للمستعمر أو المحتل، فلسطينية أو عراقية أو اخيرا لبنانية، وهنا يقول الكاتب الجزائري القومي العربي علي دراع “كيف لنا ان نقبل بتصنيف حزب الله منظمة ارهابية، ان ذلك يعني ان نقبل بتصنيف جبهة التحرير الجزائرية التي قادت ثورة التحرير “ارهابية” ، وان نعتبر شهداءها وابطالها ارهابيين”.
اما الحساسية الاخرى التي تطغى على مواقف الجزائر تجاه الازمات في المنطقة فهي حساسية الاستقرار ورفض الاحتراب الاهلي وتغليب الحلول السياسية السلمية على أي حل آخر… وهذه الحساسية مردها هو ما عاناه الجزائريون خلال عشر سنوات ليكتشفوا بعدها ان لا خروج لبلدهم من المحنة إلا بحل يقوم على الوئام والمصالحة والحوار والمشاركة والتعددية السياسية، التي ما زالت معالمها ظاهرة على الحياة الجزائرية، وان كان بعض المعارضين يشيرون إلى نواقص مهمة ما زالت تعتور التعددية والمشاركة….
حساسية “الاستقرار” مقرونة بحساسية “الاستقلال” هي التي تفسر موقف الجزائر المتميز تجاه المحنة السورية منذ خمس سنوات، حين كانت الجزائر تصر على ان الدور العربي في مواجهة هذه المحنة يجب ان يكون اسهاماً في الحل لا تسعيراً للأزمة، ودفعاً للحوار لا تزخيماً للنار المشتعلة، فاصرت ان تبقى لها بعثتها الديبلوماسية في دمشق على مدى السنوات الخمس، رغم القرار المشؤوم لجامعة الدول العربية بسحب السفراء من دمشق، بل وان تتحفظ على قرارات جامعة الدول العربية المتعلقة بسوريا، وقبلها بليبيا، إلى درجة ان رئيس وزراء دولة قطر السابق هدد سفيرها في الجامعة العربية ان “دور الجزائر قادم” في إيحاء يصدر عمن ظن نفسه “قائداً للثورات العربية”.
وحساسية “الاستقرار” هذه مقرونة بحساسية “الاستقلال” هي التي تفسر الحفاوة التي جرى بها استقبال وزير خارجية سوريا وليد المعلم، قبل أيام، والذي انفتحت امامه ابواب المسؤولين جميعاً، وقيل انه سمع كلاماً طيباً من الرئيس الجزائري الذي هو ابن جيل ثورة الجزائر الذي يعرف تماماً كيف احتضنت سوريا، شعباً وحكومة، ثورة الجزائر في الخمسينات، كما احتضنت كل الثورات وحركات المقاومة على مدى العقود المتتالية، ويذكر الدكتور عثمان السعدي سفير الجزائر في سوريا والعراق في سبعينيات القرن الماضي كيف ان سوريا والجزائر كانتا من اوائل الدول التي احتضنت حركة (فتح ) الفلسطينية منذ انطلاق رصاصاتها الاولى في مطلع عام 1965.
تبقى قضية تشغل شريحة واسعة من الجزائريين وهي قضية اللغة العربية والتعريب، وكانت قضية ملازمة للثورة حين انطلاقها، وللاستقلال في عهوده الاولى، فلدى العديد من الجزائريين، وفي مقدمه المؤرخ الجزائري المرموق الدكتور مصطفى نويصر خشية من ان “الاستعمار الفرنسي الذي خرج من باب الثورة والكفاح يريد ان يعود اليوم من شباك الفرنكوفونية عبر تدمير ممنهج للغة العربية”، الامر الذي يتطلب، كما قال الشيخ مصطفى بن مهدي رئيس حركة البناء الوطني، من كل جزائري يدرك أهمية اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، في حماية الهوية الوطنية الجزائرية على مدى قرن ونيف ان يبادر إلى حملة دفاع عن اللغة العربية جنب إلى جنب مع “الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية ” العاملة في هذا المجال منذ عقدين ونصف ومع “جمعية العلماء المسلمين” التي اطلق مؤسسها الشيخ الراحل عبد الحميد بن باديس شعار (شعب الجزائر مسلم والى العروبة ينتسب) .
من يزور الجزائر، يجد فيها رغم كثرة أزماتها والمشكلات باعث أمل في معركة الأمة ضد مشاريع تفتيتها، وضرب استقلالها، وتدمير كياناتها، وتمزيق مجتمعاتها، وطمس هويتها…
معن بشور