تفاصيل الحكاية لم تعد تهم بقدر ما يهم الواقع الذي أفرزها. لم يعد يهم أن نقف عند ما جرى لأنها من اختصاص التحقيق الأمني والعدالة الآن. يهم أن نقف عند السياقات التي أفرزت الحكاية… تلك التي فيها القايد والزوجان. فيها الابتزاز المتبادل. فيها الوجه البشع لعديد أشياء تطبع سلوكاتنا في مجتمع يلجأ إلى الإفلات من القانون بالتحايل عليه والتقرب ممن هم في حكم ممثليه. وفيها لجوء هؤلاء المعتبرين في حكم ممثلي القانون والدولة إلى تصرفات تشوه سمعة الدولة إما بالارتشاء أو بالمقايضة الجنسية لخدماتهم غير القانونية.
القضية، التي تخللها قرار وزارة الداخلية بطرد قائدها على ملحقة إدارية في الدروة، هي أولا قضية سلوكات صارت – للأسف الشديد- سائدة حد أنها تكاد تكون عادية ومألوفة في مغربنا. وهي أيضا قضية عبث بالقانون وبصورة رجل االسلطة ومثاليته في دولة يعتبر “القايد” ركيزة أساسية من ركائز تسييرها لشؤون الناس وخدمتهم… فيها- كذلك- أن مفهوم “القايد” والحمولة الشعبية التي عظُمت معه عبر سنين حكم المخزن، لا يزال يتمتع بكل الحظوة الشعبية في المجال الهامشي.
تبدأ الحكاية عادية في يوم عادي برغبة غير عادية في حماية بناء غير قانوني على سطح بيت سكني. تتطور الأحداث بأن دخل السيد القائد على خط الابتزاز – حسب رواية الزوجة- بعد أن جعل الزوج يمضي ورقة إقرار بدفع رشوة للمقدم، قبل أن يتبين أن الغاية ليست ابتزازا ماديا بالدرجة الأولى، بل ابتزازا جنسيا و… بطريقة شاذة بحسب قول الزوجة دائما… ثم تتداعى الأحداث في قالب يكاد يكون دراميا خاضعا لسيناريو محبوك سقط في شباكه “القايد” وصورة المخزن معه. مشاهد المخزن- عفوا- القايد وهو جالس على سرير زوجين، ثم على الأرض بتبان طويل وقميص نوم وهو يحاول دفع تهمة الرغبة في معاشرة زوجة رجل عن طريق الابتزاز تحمل الكثير من الإهانة لمنظومة حكم ظل يرسم لنفسه صورة تاريخية أساسها الوقار، ولم تدع لهذا المخزن فرصة الدفاع عن عنصر محسوب عليه من باب “أنصر أخاك ظالما أو مظلوما”… لأن الوقع كان أقوى بكثير من منسوب التحمل المقدور عليه. “القايد” أو المخزن – الأمر سيان- في وضع محرج للغاية… في مشهد موثق بالصورة وبالصوت. قمة العبث بمنصب وبصفة وبدور مخزني تقوم عليه كثير أدوار أخرى.
في القضية، أيضا، فقدان للثقة في أمننا، في قانوننا، في من يفترض فيهم الدفاع عن الحق وإنصاف المواطن. لماذا لم يبلغ الزوج والزوجة رجال السلطة لما كان السيد “القايد” متورطا في غرفة النوم، ولما دخل عليه الزوج وخاطبه “القايد” قائلا “سي رشيد”!… كما لو أن الأمر طبيعي، لا يشذ عن المألوف؟ لأن الزوجة – وهي واحدة من هذا الشعب- ليس لديها الثقة التامة في السلطة التي يمكنها أن تحقق وتستجلي حقيقة ما جرى برغم وجود وثيقة تدين الرجل، أُمليت عليه ووقع على مضمونها. وهنا قضية أخرى. لو كانت الأمور سارت وفق منطق التبليغ وحضور ممثلي السلطة، لكانت ربما حُرفت مجرياتها ووُجهت حلقاتها نحو ما لا يصب في مصلحة الزوجة. هذا ما يستنتجه كل من استمع لكلام الأخيرة. ولمَ هذا الخيار الذي سارت فيه؟ لأن السوابق كثيرة. ولأن يا ما ملفات حبكت بعناية ليظهر فيها الضحية متهما والجاني بريئا. ولأن في قضايا المحاكم الكثير مما لا يرضي المواطن المسكين، المقهور، المغلوب على أمره، العاجز عن استرداد حقه حين المواجهة غير المتكافئة وحين يكون المؤتمن على حقوق الناس متورطا في لعبة الحكم بقدر ما نال من مكافأة مالية. وإذا صدقت الزوجة في نازلة “القايد”، فمقاطع الفيديو التي انتشرت على الفيسبوك لم تكن هي من نشرها على الشبكة، بل نشرها كان من صنيع جهة كان الغرض لديها توريط الزوجين في واقعة ثانية قد يخرج منها “القايد” سالما، ظافرا بنصر على الزوجين. من سرب المقاطع والزوجة تقول إن هاتفها وهاتف زوجها صودرا من قبل الدرك؟ سؤال لا يمكن إلا أن يزكي واقع ليّ عنق الحقيقة ولو كانت ماثلة أمامنا.
في القضية- مرة أخرى- ميل يكاد يكون شبه طبيعي عند البعض- خاصة في أوساط رجال السلطة والإدارات المعهود لهم بقضاء حاجيات المواطنين وخدمتهم- إلى اعتبار أن كل طالبة خدمة من بنات حواء يمكن مراودتها على نفسها وحملها على الأداء جنسا مقابل خدمة إدارية. واقعة مديونة تعكس جزء من هذه الحقيقة الكائنة في سلوكات البعض مهما ادعى البعض الآخر منا العكس. في الأذهان، مازالت حلقات مسلسل الكوميسير إياه ثابتة، تذكرنا بما يمكن أن تصنعه السلطة حين تنفلت من عقالها القانوني والأخلاقي. أية خدمة هاته التي تتحول فيها المرأة إلى كائن يمكن مساومته وإذلاله؟
عندما يفقد المواطن الثقة في المؤسسات التي تدير شؤونه وتخدمه وتحميه، طبيعي أن يسعى بنفسه إلى الحلول والمخارج التي يراها مناسبة له. قصص الاحتجاج بحرق النفس… حكايات التهجم على رجال القضاء في المحاكم… نوازل الرشاوى التي تدفع في الخفاء لتسهيل الحصول على حق يصادره أحد ما في منصب ما… تعكس المأزق النفسي الذي يجد المواطن نفسه حبيسه بينما يعرف أنه لا يستحق أن يكون كذلك.
وفي مأزق “القايد” وهو يفاوض من أجل خلاصه كثيرٌ من حكايا الآخرين، التي لم يكتب لها أن تنشر على الملإ. في المأزق إياه خيانة عظمى لواجبات لو أنجزنا بعضها، فقط، لما كان لذلك الشعور بالخوف والحذر من مجتمعنا أن يستوطن كياننا. ولما نُزعت “السعادة” على “القايد” في البدء والمتم.
بقلم سعيد الشطبي