ليس صحيحا، كما يرى العديد من العَلمانيين، أن الدين، وما يرتبط به من اعتقاد وإيمان، هو مسألة شخصية تخصّ حرية الاعتقاد لدى الفرد، ولا علاقة له، كنتيجة لذلك، بما هو سياسي، والذي ينصبّ أساسا على تدبير ما هو مشترك وجماعي وعمومي. ليس صحيحا لأن الإيمان الديني ليس مجرد رأي، أو فقط قناعة فكرية، أو اجتهادا فلسفيا، قد يحتلف بالتالي باختلاف الأشخاص وآرائهم وأفكارهم وفلسفاتهم... ولا أدل على ذلك من وجود، بالنسبة لجميع الأديان، معابد جماعية لممارسة الشعائر الدينية بشكل جماعي. فلو كان الإيمان الديني مسألة شخصية، ولا يهمّ الجماعة كجماعة، لما كان هناك معنى لوجود مساجد وبيَع وكنائس ومعابد يجتمع فيها المؤمنون للعبادة جماعة.
هذا الطابع الجماعي، الملازم للدين، يعطيه إذن، بالضرورة، طابعا سياسيا، لارتباطه بالجماعة التي هي كيان سياسي لأنها موضوع لتدبير سياسي، علما أن السياسة هي، في تعريفها العام، التدبير لشؤون الجماعة، وفي تعريفها الخاص هي تدبير للسلطة التي تتولى تدبير شؤون الجماعة. القول إذن إن الدين ذو ارتباط بالسياسة، كما في عبارة "الإسلام دين ودولة"، هو من صميم الدين، ومن صميم الإسلام. وليس من الضروري أن تصرّح النصوص الدينية المقدسة بالعلاقة الوطيدة بين الدين والسياسة، حتى يصحّ القول إن هذه العلاقة موجودة. فمثلا لا يوجد في القرآن، كما سبق أن بيّن ذلك علي عبد الرزاق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" في 1921، ما يفيد أن الإسلام نظام للحكم وللدولة، وهو ما قد يستنتج منه انتفاء أية علاقة بين الإسلام والسياسة، بمعناها الضيق المتصل بالحكم والسلطة ونظام الدولة. ومع ذلك لا يمكن فصل الإسلام، كاعتقاد جماعي، عن السياسة. فإذا لم يحدّد القرآن، مثلا، شكل النظام السياسي لأمة المسلمين، ولا كيفية تنظيم السلطة السياسية وانتقالها، إلا أنه أمر المسلمين بنشر الإسلام لدى غير المسلمين، وبدعوة المشركين إلى عقيدة التوحيد الإسلامية. وهذا النشر والدعوة، ولو سلميا، يجعلان من الإسلام مشروعا سياسيا، يتجاوز ما هو اعتقاد شخصي لا يهم إلا صاحب هذا الاعتقاد. لهذا يمكن القول إن الإسلام بدأ كاعتقاد شخصي لا سياسة فيه قبل مرحلة الجهر بالدعوة المحمدية، التي سينتقل معها إلى مستوى سياسي يستقطب الأنصار والأتباع، ويواجه الخصوم والمعارضين. وكذلك المسيح، عسيى ابن مريم، لم يتعرض للتعذيب والتنكيل من طرف معارضيه إلا لأنهم رأوا في عقيدته الجديدة، ليس مجرد اعتقاد شخصي لا يتجاوز نفوذه الفرد المعني بهذا الاعتقاد، بل مشروعا سياسيا جديدا قد يهدد مصالحهم السياسية.
إذا كان من الممكن أن توجد سياسة بلا دين، فإنه من غير الممكن أن يوجد دين بلا سياسة. ذلك أن الدين هو، بطبيعته، سياسي ما دام أن الإيمان الديني ذو طابع جماعي، كما سبقت الإشارة. ولهذا فنشأة الإسلام وانتشاره وتوسّعه، كل ذلك كان ذا طبيعة سياسية، وهو ما أنتج الدولة الإسلامية كنظام سياسي، وليس فقط كنظام للإيمان والعبادة والتقوى. هذا الجمْع، داخل الإسلام، بين العقيدة والسياسة، هو الذي كان وراء الغزو، المسمى تلطيفا بـ"الفتوحات"، من أجل نشر الإسلام. وهذه "الفتواحات" تبقى عملا سياسيا مهما كانت أسبابها ومبرراتها. بل مجرد العمل على نشر عقيدة ما، ولو باساليب سلمية كالوعظ والهداية،هو عمل سياسي ما دام أن صاحب هذه العقيدة يريد أن يجعل منها عقيدة أكبر جماعة ممكنة من الناس، مع ما يؤدي إليه ذلك من ممارسة لشعائرها والتزام بمبادئها وتطبيق لأحكامها.
وهذا التلازم بين الدين والسياسة، كما في الإسلام، ليس ضروريا للدين فقط حتى لا يبقى مجدر اعتقاد شخصي، بل هو ضروري للمؤمنين بهذا الدين أيضا، إذ يجمعهم ويوحّدهم ويشكّل منهم أمة واحدة، كما حصل مع الإسلام في عصر النبي (صلعم). فالعنصر السياسي في الدين شيء إيجابي ومفيد إذن عندما يستعمل لمصلحة الجميع، أي لمصلحة كل الأمة. وهو ما يمثّل السياسة الكبرى للدين، أي السياسة التي يوظّف فيها الدين لمصلحة كل الأمة، كما أشرت. وهو ما تحقق، بالنسبة للإسلام، في عصر الرسول (صلعم)، كما سبق أن قلت. فمثل هذه السياسة الكبرى، الموظِّفة للدين من أجل المصلحة العامة، أي مصلحة كل الأمة، إذا كانت جمْعا بين الدين والسياسة، فهي جمع مطلوب لأنه مفيد للأمة كما يظهر ذلك بوضوح في بداية تكوّن الأمة والدولة الإسلاميتين، كمشروع ديني سياسي لا ينفصل فيه الدين عن السياسة.
ويمكن القول إن الديانة الوحيدة التي لا تزال تُمارس اليوم كسياسة كبرى، أي تجمع بين الدين والسياسة من أجل مصلحة الجميع، أي مصلحة كل الأمة، هي الديانة اليهودية، التي وظّفتها إسرائيل بنجاح لتجميع اليهود وإنشاء دولة لهم، وصنع هويتهم الجماعية المشتركة، وتوحيدهم ضد العدو الحقيقي أو المفترض . فرغم أن إسرائيل دولة علمانية في قوانينها ونظامها السياسي، إلا أنها تعتمد على الدين بشكل رئيسي كإيديولوجية موحّدة لليهود عبر العالم، تمنحهم هويتهم اليهودية الخاصة بهم، وتخلق لديهم شعورا وطنيا وقوميا، جماعيا ومشتركا، مما يساهم في الحفاظ على وحدة اليهود كشعب وكأمة.
أما في الإسلام، فبمجرد ما ظهرت، عقب موت الرسول (صلعم)، الخلافات بين المسلمين، أي داخل الدولة الإسلامية أو الأمة الإسلامية الناشئة، حول الخلافة، أي الحكم والسلطة السياسية، حتى تحوّل الجمْع بين الدين والسياسة، الذي كان مفيدا ـ بل ضروريا ـ لانتشار الدعوة المحمدية وتكوين الأمة وبناء الدولة الإسلامية، إلى عنصر مضر لهذه الأمة، ومقوّض لهذه الدولة. لماذا؟ لأن الدين ـ الإسلام في مثالنا هذا ـ لم يعد يُوظّف سياسيا لمصلحة كل الأمة، كما كان الأمر في عهد الرسول (صلعم)، بل بدأت توظفه جماعة من المسلمين ضد جماعة أخرى من المسلمين، أي يستعمله جزء من الأمة ضد جزء آخر منها. فاختفت السياسة الكبرى، القائمة على الجمع بين الدين والسياسة لما فيه مصلحة الجميع، أي مصلحة كل أمة المسلمين، لتحلّ محلها السياسات الصغرى، القائمة هي أيضا على الجمْع بين الدين والسياسة، ولكن ليس من أجل مصلحة كل المسلمين، بل من أجل مصلحة مجموعة منهم ضد مجموعة أخرى. وقد كان ما يُسمّى حروب الرّدة أول استعمال سياسي للإسلام من طرف مسلمين ضد مسلمين آخرين، أي توظيفه كسياسة صغرى لفائدة جماعة من المسلمين ضد جماعة أخرى من المسلمين. وعبارة "حروب الرّدة" هي من وضع المسلمين المنتصرين لتبرير حربهم على خصومهم من المسلمين الآخرين، وإظهارهم كمرتدين عن الإسلام وجب قتالهم. مع أن الثابت هو أن هؤلاء لم يرفضوا الإسلام بعد وفاة الرسول (صلعم)، كما أشاع عنهم خصومهم، بل رفضوا خلافة أبي بكر. وقد استمر هذا الاستعمال السياسي للإسلام من طرف جماعة من المسليمن ضد جماعة أخرى من المسلمين (مثل الصراع بين الخوارج والخليفة عثمان بن عفان، بين علي بن أبي طالب وعائشة، بين العلويين والأمويين، بين الأموييين والعباسيين، بين الشيعة والسنة...)، أي كسياسة صغرى، منذ ذلك الوقت إلى اليوم، مع ظهور القاعدة وداعش كجماعات من المسلمين تحارب جماعات أخرى من المسلمين، كما في الجزائر، واليمن، وسوريا والعراق...
نلاحظ أن الإسلام انتقل إذن من السياسة الكبرى، المفيدة لأمة المسلمين، حيث توظّف السياسة من أجل الدين، أي من أجل نشره وفرضه والإقناع به، إلى السياسات الصغرى، التي توظّف الدين من أجل السياسة، أي من أجل الحكم والسلطة، وليس لمصلحة الأمة كما في السياسة الكبرى، بل فقط لمصلحة جماعة من المسلمسن على حساب جماعات أخرى من المسلمسن. وهذا المسار مرت به كذلك المسيحية التي عرفت توظيفا سياسيا للدين أدى إلى هيمنة شاملة للكنيسة، أصبحت معها تنصب الحكام وتعزلهم، وتحاكم وتعاقب، وتراقب حتى الأفكار والضمائر (محاكم التفتيش).
هذه الهيمنة للدين على السياسة، وتدخّله في كل صغيرة وكبيرة تخص حياة الجماعات والأفراد، كانا أحد أسباب ظهور العَلمانية بأوروبا المسيحية، أي الفصل بين الدين والسياسة العمومية للدولة، حيث تلتزم هذه الأخيرة، كتنظيم وممارسة سياسيين، الحياد إزاء الدين. وحتى الإسلاميون لا ينكرون أن العَلمانية لم تظهر بأوروبا إلا كرد فعل ضد طغيان الكنيسة ورجالها الذين كانوا يمارسون، باسم هذه الكنيسة، رقابة شاملة على الدولة والمجتمع، وحتى على الأذهان والأبدان والضمائر. وهكذا تكون العلمانية قد ظهرت، حسب رأيهم، لتحرير الإنسان من استبداد الكنيسة، ليخلصوا أن الإسلام، ولأنه لا يتوفر على مؤسسة دينية تقوم بدور الوسيط بين العبد وربه، مثل مؤسسة الكنيسة في المسيحية، فلا يحتاج إطلاقا إلى علمانية، ما دام أن هذه الأخيرة جاءت لتخلّص الإنسان المسيحي من استبداد هذه المؤسسة/الوساطة التي لا وجود لها أصلا في الإسلام. فما كان وراء نشأة العلمانية هو الكنيسة. وبما أن مثل هذه المؤسسة لا وجود لها في الإسلام، فلن يكون هناك ما يبرر قيام هذه العلمانية في الإسلام، لأن مع انتفاء السبب تنتفي نتائجه كذلك.
لكن حتى على فرض أن هذا الاستدلال صحيح جدا وحقا، وأن الإسلام يختلف بالفعل عن المسيحية في عدم وجود مؤسسة دينية تلعب دور الوسيط بين العبد وربه، وبالتالي فلا داعي لقيام علمانية كثورة على هذا الوسيط الذي تجاوزت سلطته كل الحدود، لتحرير الإنسان من بطشه واستبداده وابتزازه، لتصبح علاقته بربه علاقة مباشرة وبلا وسيط، فحتى على فرض أن كل هذا صحيح، فإن الحاجة إلى العلمانية في مجتمع مسلم كالمغرب مثلا، لن يكون الدافع إليها هو تحرير الإنسان من سلطة تلك المؤسسة الدينية/الوسيط التي لا وجود لها في الإسلام، كما يقول خصوم العلمانية، بل الدافع إليها، هو العكس من ذلك تماما: الدافع إليها هو تحرير الإسلام ـ وليس الإنسان ـ من استغلال هذا الأخير له واستعماله لأغراض مصلحية خاصة بجماعة من المسلمين، أي لأغراض السياسة الصغرى التي لا تنفع كل المسلمين. فإذا سلّمنا أن غاية العلمانية ـ وسبب قيامها ـ في أوروبا المسيحية هي حماية الإنسان من الدين ممثَّلا في مؤسسة الكنيسة، فإن غاية العلمانية، التي تحتاجها المجتمعات الإسلامية، هي حماية الإسلام من الإنسان، وليس العكس. نلاحظ إذن مدى الفرق، على مستوى الأسباب والغايات، بين العلمانية المسيحية والعلمانية الإسلامية المأمولة، وإن كانت النتائج واحدة: حماية الدين ومنع استعماله واستغلاله من طرف جماعة من المؤمنين ـ بما فيها الدولة ـ ضد جماعة أخرى من المؤمنين. فغاية العلمانية هنا، وبهذا المعنى الخاص بالإسلام، ليست فقط حماية حرية المعتقد من طرف الدولة، التي لا يجب أن تنحاز إلى معتقد دون آخر، كما في العلمانية الغربية، بل هي حماية المعتقد الجماعي، الذي هو الإسلام في حالة المجتمعات الإسلامية مثل المغرب.
لماذا الحاجة إلى علمانية من أجل حماية الإسلام؟ هل الإسلام في خطر يتطلب تدخل العلمانية لحمايته؟ أليست هي من يهدده، كما يكرر معارضو العلمانية؟
نعم لقد أصبح الإسلام رهينة حقيقية، أكثر مما كانت عليه المسيحية في يد رجال الكنيسة في القرون الوسطى، في يد جماعات ـ وأحزاب ـ إسلام السياسات الصغرى، التي تستعمله كوسيلة لتحقيق مشروعها السياسي، القائم على السياسات الصغرى التي تفرّق أمة المسلمين ولا تجمعها، وتضرها ولا تنفعها، كما سبق توضيح ذلك. وقد بلغت هذه السياسات الصغرى عند بعض هذه الجماعات مستوى من التطرف أصبحت معه ممارساتها للإسلام تكفيرا وإرهابا ودعوة لقتل كل من يختلف معها، مسلما كان أم غير مسلم. وهو ما أصبح معه الإسلام نفسه، عند البعض، "دينا إرهابيا" يأمر بالقتل ويدعو إلى زرع الموت وسفك الدماء. ولا يهم تبيان أن الإسلام بريء من تهمة الإرهاب وأنه، على مستوى المبادئ، دين يسر يدعو إلى التسامح وحسن المعاملة وعدم الإكراه. إن الذي يهم هو الجانب "العملي" في الإسلام، كما تجسّده جماعات إسلام السياسات الصغرى.
قد نجد، للأسف الشديد، أن عبارة ماركس، «الدين أفيون الشعوب»، أصبحت تصدق على هذا الإسلام المختزل في السياسات الصغرى التي تمارسها جماعة من المسلمين ضد جماعات أخرى، أكثر من أي دين آخر، بعد أن عبثت به وشوهته جماعات السياسات الصغرى. فالأفكار الخاطئة التي تنشرها هذه الجماعات عن الإسلام أصبحت كأفيون حقيقي يخدر العقول والنفوس، فيخلق منها الإرهابيين ويصنع بها الانفجاريين. فهذا الإسلام، الذي حوّلته هذه الجماعات، إلى دين مخيف مرهب، يعادي المرأة ويحجبها، ويحارب الجمال والفن والحياة، ويمجد قيم الموت والعنف والقتل، أليس في حاجة إلى من يحميه ويحرره من هؤلاء الأشرار، الذين استولوا عليه واختطفوه، يستعملونه كريهنة يبررون به جرائمهم وإرهابهم وتكفيرهم لمن يخالفهم الرأي؟
هذا الذي يحرره ويحميه هو العلمانية، لكن ليس بمعنها الأوروبي المسيحي، وإنما بمعناها الإسلامي، الذي يعني منع استعمال الإسلام من طرف جماعة أو حزب ضد جماعة أخرى أو حزب آخر. فإذا كان الإسلام هو دين أمة المسلمين، فإن أي استعمال له لغير ما ينفع كل هذه الأمة، سيكون أمرا مخالفا للإسلام نفسه. فإذا كانت العلمانية في الغرب المسيحي هي نوع من "خوصصة" الدين، بجعله شأنا خاصا وشخصيا يهم المؤمن وحده بصفته فردا، فإنها في حالة الإسلام تعني نوعا من "تأميم" الدين، وذلك بجعله شأنا يخص كل أمة المسلمين، كما هو في الأصل. وهذا يعني أن استعماله من أية جماعة ضد أية جماعة أخرى، هو نوع من "الخوصصة" المخالفة للإسلام كدين "أممي" لكل المسلمين، وليس دينا خاصا بجماعة مسلمة دون أخرى. والنتيجة أن الإسلام، عندما لا يكون استعماله السياسي مفيدا لكل أمة المسلمين، مثل الديانة اليهودية المستعملة سياسيا، في الوقت الحالي، لمصلحة كل اليهود، كما سبقت الإشارة، فإن أي استعمال سياسي له لا يمكن أن يكون إلا على شكل صراع جماعة من المسلمين ضد جماعة أخرى. وبما أنه لا توجد اليوم ـ ومن غير الممكن أن توجد ـ أمة إسلامية بالمفهوم السياسي، أي أمة ذات سلطة مركزية وأهداف واحدة ومشتركة، على شكل دولة موحدة، كما كان عليه الأمر في العصر الأول للإسلام، وإنما توجد فقط دول إسلامية قطْرية، بأولويات وسياسات مختلفة، فإن الاستعمال السياسي للإسلام، كسياسة كبرى لصالح كل الأمة، يصبح أمرا مستحيلا، لأن الذي يجمع الأمة اليوم هو الدين فقط وليس السياسة. وبالتالي فإن كل استعمال سياسي للإسلام هو ممارسة للسياسة الصغرى، التي كانت دائما وراء كل الفتن التي عرفها تاريخ المسلمين، مثل الحالة التي يحارب فيها مسلمون مسلمين آخرين باسم نفس الإسلام.
في الحقيقة جلّ الدول الإسلامية ليست دولا دينية ولا عَلمانية. هي ليست دينية لأنها لا تطبّق الحدود الشرعية في المسائل الجنائية كالزنا والسرقة (الجلد وبتر اليد)، كما في العربية السعودية مثلا. فرغم أن آيتي الجلد وقطع اليد صريحتان وواضحتان، ولا تقبلان تاويلا ولا تحتملان معنى آخر، إلا أن أحكامهما معطّلة في العديد من الدول الإسلامية مثل المغرب. وتعطيل حكم إلهي جاء به الإسلام هو بمثابة تعطيل للإسلام. ومع ذلك لن يخطر ببال أحد أن المغرب، مثلا، الذي لا يطبّق هذه الأحكام الشرعية القطعية، هو دولة غير إسلامية. واستمرار المغرب دولة إسلامية، يرأسها أمير للمؤمنين، رغم عدم التزامه بحكم قرآني قطعي، يعني أن أحكام الإسلام، الدنيوية، أي التي تخص حياة الناس ومعاملاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية وتنظيماتهام السياسية، ليست صالحة لكل زمان ومكان. وبالتالي فإن تأويلها أو تغييرها أو تكييفها مع المستجدات أو الاستغناء عنها، لا يعني بالضرورة الخروج عن الإسلام، وإلا لما كان المغرب بلدا مسلما. أما الجانب من الإسلام الصالح لكل زمان ومكان، فهو ـ فضلا عن الإيمان ـ الجانب التعبدي الخاص بالعبادات والفرائض الدينية. وليس صدفة أن المجتمعات الإسلامية تختلف في تطبيقها للإسلام، بخصوص الشقّ الاجتماعي والسياسي والقانوني، لكنها لا تختلف في تطبيقه بخصوص جانب العبادات والفرائض. الإسلام لم يحرم الرق، لكن قوانين جل المجتمعات الإسلامية تمنعه وتعاقب ممارسيه. الإسلام يجيز لمالك إماء وطأهن من دون زواج (ملك الإيمان). لكن قوانين جل المجتمعات الإسلامية تمنع ذلك وتعتبره زنا وفسادا، كما في القانون المغربي.
تجاوز هذه الأحكام الشرعية وتجاهلها من طرف العديد من الدول الإسلامية، يجعل من هذه الأخيرة، عمليا، دولا عَلمانية رغم أنها تصف نفسها بالإسلامية مثل المغرب. هي عَلمانية، لكن ليس بمفهوم فصل الدين عن الدولة، بل بمفهوم تكييف الإسلام وأحكامه مع إكراهات التطور والظروف والمستجدات. فإذا كانت الدولة العلمانية تشرّع قوانين تحمي وتضمن حرية التدين، فالمغرب سيكون هو نفسه دولة علمانية استنادا إلى الفقرة الأولى من الفصل 220 من القانون الجنائي المغربي، والتي تقول: «من استعمل العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبادة ما أو على حضورها؛ أو لمنعهم من ذلك، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائة إلى خمسمائة درهم». فهذا نص قانوني علماني بامتياز يضمن ويحمي حرية التدين في أجلى صورها، إذ يعاقب كل من يمس بهذه الحرية، سواء بمحاولة إلزام الآخرين بممارسة تدين ما، أو بمنعهم من ذلك. وهو نص لا يختلف في مضمونه ومقصده عن التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة الذي يقول: «لا يجوز للكنكريس تشريع قانون يفرض أو يمنع ممارسة التدين». فالمغرب، إذن، من حيث قوانينه وحمايته للحرية الدينية هو بلد "عَلماني"، ولو أنه لا يعرّف نفسه أنه "عَلماني". وإذا كان الفصل 3 من الدستور يقول بإن «الإسلام دين الدولة»، فهذا لا يعني أن الدولة دينية تطبق الحدود الشرعية في قوانينها الزجرية، لأن جوهر العلمانية، ليس هو فصل الدين عن الدولة، كما هو شائع استنادا إلى نموذج العلمانية الفرنسية، بل هو ضمان وحماية الحرية الدينية، التي تسمح للمواطن أن يتدين حسب قناعاته واختياراته. وهذه الحرية منصوص عليها في الدستور أيضا، حيث ينص نفس الفصل الثالث على أن «الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية». وهو ما كرره الفصل 41 الذي يقول: «الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية». فلفظ "المؤمنين" عام يصدق على المؤمن المسلم والمسيحي والبوذي واليهويدي وحتى غير ذلك، وليس من الضروري ولا من المطلوب أن نعطيه نفس المعنى الذي كان يخص فقط المؤمنين المسلمين كما كان يستعمل هذا المفهوم في زمن الخلفاء. وهذا المعنى ينسجم مع ضمان حرية ممارسة الشؤون الدينية، الذي ينص عليه الدستور، لأن لو كان المقصود هو ممارسة الدين الإسلامي حصرا، لما كانت هناك حرية لممارسة الشؤون الدينية، ولكان التعبير الدستوري الخاص بهذه الحرية، عبثيا، متناقضا ومتهافتا، ينفي ما يؤكد ويتراجع عما يثبت، داخل نفس النص. وليس هناك تناقض أن يكون الإسلام دين الدولة، ويكون مواطنو هذه الدولة أحرارا في ممارسة شؤونهم الدينية، مع زجر من يفرض عليهم شكلا معينا من التدين أو يمنعهم من ذلك، ضمانا لحرية التدين والعبادة، وهو ما يشكل صلب العلمانية. أما الفقرة الثانية من الفصل 220 ، المشار إليه، من القانون الجنائي، والتي جاء فيها: «ويعاقب بنفس العقوبة كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو المياتم، ويجوز في حالة الحكم بالمؤاخذة أن يحكم بإغلاق المؤسسة التي استغلت لهذا الغرض، وذلك إما بصفة نهائية أو لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات»، فإذا كانت تحدّ حقا من الحرية الدينية، إلا أنها تربط ذلك أولا باستعمال وسائل الإغراء، وبوجود، ثانيا، حالة ضعف أو حاجة إلى المساعدة لدى المسلم المعني بزعزعة عقيدته. وهو ما يعني أن المغربي المسلم الذي يختار تغيير عقيدته، ودون أن تكون وراء ذلك الاختيار إغراءات أو حالة ضعف أو حاجة إلى مساعدة، فهو حر في ذلك ولا جناح عليه.
إذا كانت حرية ممارسة التدين تشكل صلب العلمانية، كما كتبت، وهو ما يستتبع أن العديد من الدول الإسلامية هي، عمليا، دول علمانية رغم أن الإسلام هو الدين الرسمي لهذه الدول، إلا أن ما ينقص هذه العلمانية الإسلامية، ليس هو فصل الدين عن الدولة، بل فصل التراث الإسلامي عن العصر الحالي، والكفّ عن تقديسه وتمجيده كخير مطلق وبديهي، صالح لنا الآن كما كان صالحا لمسلمي العصر الذي دُوّن فيه ذلك التراث. فالعلمانية، إذا كانت تعني حرية التدين، فهي تعني أيضا حرية التفكير في الدين والتدين، مع ما يتضمن ذلك من إمكانية نقد للتراث الإسلامي ورجالاته وفقهائه وعلمائه، وإعادة النظر في تأويلات وقراءات خاصة للإسلام تحولت إلى حقائق ثابتة غير قابلة للنقاش. وهذا ما هو غائب لدى المفكرين المسلمين الذين لا زالوا يقدسون هذا التراث ويمجدون المفسرين والفقهاء السابقين، ويستشهدون بهم كحجة وكسلطة علمية، مع أنه لا يوجد سبب معقول ومقنع يجعل هؤلاء يفهمون القرآن أفضل ممن يقرأه اليوم وهو مسلح بمعطيات اللسانيات والعلوم الإنسانية والعلوم الحقة. لماذا يكون أبو هريرة أو الطبري أو البخاري أو ابن تيمية أعلم بمصلحة المسلمين في القرن الواحد والعشرين ممن يعيش منهم في هذا القرن؟ هل لا بد أن نعتمد على تفسيراتهم وأحاديثهم وفهمهم ليصحّ فهمنا للإسلام؟
إذا كان الإسلام لا يعرف مؤسسة مثل الكنيسة كما في المسيحية، إلا أنه ربما يعرف ما هو أسوأ منها، وهو سلطة السلف وديكتاتورية التراث. وكما أن إعادة النظر في دور الكنيسة والدين بصفة عامة، كان من أسباب ظهور العلمانية الغربية، فكذلك العلمانية الإسلامية، التي ليست بالضرورة فصلا للدين عن الدولة بالمفهوم الفرنسي للعلمانية، تحتاج إلى إعادة النظر في التراث الفقهي والسياسي الإسلامي، وفي مفهوم السلف الصالح... فالفصل المطلوب هنا، هو فصل لهذا التراث (مجموع القراءات والتاويلات والبناءات الفكرية الخاصة) عن حياة المسلم المعاصر. ولا يعني هذا الفصل رفضا كليا ونهائيا لهذا التراث، بل يعني فقط القطع عن الفهم التراثي للتراث ـ هذا الفهم الذي يعيد إنتاج وفرض نفس التراث ـ، وذلك بإعادة قراءته في ضوء المعارف والعلوم الحديثة، التي لم تكن موجودة ولا معروفة عندما جُمع هذا التراث.
محمد بودهان.