ليست مجرّد مطربة كبيرة، بل هي مدينة فنية في حد ذاتها! والغناء عندها ليس فقط وسيلة للإمتاع والترفيه، بل هو ثقافة راقية، ونوع من النضال، ومواكبة نبيلة لتاريخ أمتها العربية. إنها المطربة اللبنانية القديرة نجاح سلام، التي شكلت واحدةً من «منارات» الفنّ العربي، وهي التي انطبعت مسيرتها بنجاحات باهرة استمرّ صداها يتردد، منذ قرابة 70 عاماً، رغم انكفائها في الفترة الأخيرة.نحو 5 آلاف أغنية وعشرات الأفلام السينمائية، كلّها ساهمت في تكريس ريادية هذه المطربة التي بدأت مشوارها الغنائي في العام 1948، ولم تكن بعد تجاوزت الـ 17 عاماً، لتُراكِم سنة وراء سنة رصيداً فنياً طبع اسمها بـ «أحرف من ذهب» رصّعته عشرات الأوسمة وشهادات التقدير، إضافة إلى ألقاب استحقتها نتيجة مواقفها الداعمة للحركات الثورية العربية ولفلسطين وقضيّتها قبل النكبة وبعدها، وللمقاومة اللبنانية ضد إسرائيل، وبينها لقب «المطربة الفدائية» و«مطربة العروبة» و«صوت العرب».سلام، التي غنّت لبنان، لم تبخل بصوتها الذي قدّم لمصر «يا أحلى اسم في الوجود يا مصر»، ولسورية «سورية يا حبيبتي»، وللجزائر «محلى الغنا بعد الرصاص ما تكلم»… وغيرها من الأغنيات للعديد من الدول العربية التي بادلتها الوفاء إما بمنحها الجنسية كما فعلت مصر، أو بتقليدها الأوسمة ومنها «الإخلاص والشرف» من سورية، و«جوقة الشرف» من فرنسا، ومفتاح «مدينة نيوجرسي» و«الأوسكار العربي» من أميركا، وشهادة مجمع اللغة العربية – الجامعة العربية في القاهرة (شهادة لم تُمنح لسواها من مطربي ومطربات الوطن العربي) ووسام «الشهيد» من الجزائر وغيرها من دروع التقدير وشهادات الوفاء.
أما لبنان، الذي كان كرّمها مرات عدة حيث نالت وسام الاستحقاق الوطني اللبناني المذهّب و«وسام الأَرز من رتبة كوموندور»، فأبى إلا أن يردّ التحية لها قبل أشهر قليلة بأعلى صوت، حين أقام لها حفل تكريم حاشداً رعاه وحضره وزير الثقافة وجهات رسمية لبنانية وعربية وسط حضور شعبي كثيف، وهو التكريم الذي وصفته سلام بأنه «الأهمّ في مشوارها الفني»، لأنه جاء من جهة فنية – موسيقية – غنائية هي الأعلى في وطنها لبنان (المعهد الوطني العالي للموسيقى). «الراي» التقت هذه القامة الفنية الكبيرة في حوار ذكريات تنشره على حلقات:
● كيف بدأتْ انطلاقتك الفنية في لبنان؟
– صرتُ أتعامل مع الملحنين الذين يعطونني ألحاناً تتناسب مع إمكانات صوتي. تعرفتُ إلى الحاج نقولا المني، واكتشفتُ عفيف رضوان. يومها كنتُ أسجّل أغنية في الإذاعة، فسمعتُ صوته في الكورس، فقلت له صوتك مميز لماذا لا تغني؟ فأجابني أنا ملحن، فطلبتُ منه أن يُسمِعني بعضاً من ألحانه. وبدأنا نحقق النجاح عبر سلسلة أغنيات، واستمرّ تعاوننا من العام 1952 حتى 1957 وقدّمنا نحو 20 أغنية. وعندما كان والدي رئيس الدائرة الموسيقية في الإذاعة اللبنانية، شكل لجنة استماع مؤلفة من مجموعة شعراء وملحنين وأدباء. ومن ضمن المجموعة كان هناك طبيب «سميع ومتذوق»، ودارس للموسيقى ولكن مهنته كانت الطب، اسمه الدكتور فيليب توما، وكانت عيادته تقع في «الجميزة»، إضافة إلى صبحي المحمصاني الذي كان من أهم القضاة في المحاكم اللبنانية، وشغل منصب وزير اقتصاد في مرحلة لاحقة. وكان والدي يأخذني إلى عيادة الدكتور فيليب مرة كل شهر لإجراء فحص للحنجرة، لأن عدم الاهتمام بها يؤدي إلى «حبحبة» الأوتار الصوتية، إذا كان الغناء يؤدى في شكل غير صحيح. وخلال وجودي في العيادة، كان هناك شخص يعمل على «السنترال» اسمه ميشال طعمة، وهو قال لي إنه يهوى كتابة الشعر، وعرض عليّ مجموعة من الأشعار التي كتبها، فاخترتُ من بينها 3 أغنيات بينها «فيها وفيها وما فيها» ولحنها عفيف رضوان، وبعدها ترَك العمل في عيادة الدكتور فيليب توما واتجه إلى كتابة الأغنيات للفنانين.
● ألم تشعر جاكلين زوجة عفيف رضوان بالغيرة منك؟
– أبداً، لأنها تعرف إمكاناتها الصوتية. في تلك الفترة كانت جاكلين أهمّ من هيفاء وهبي، وكانت تُلقب بجاكلين مونرو. وأذكر أن محمد عبدالوهاب قال عن عفيف رضوان إنه حرف جديد على الموسيقى العربية. وهذا الكلام يؤكد مدى أهميته كملحن. عندما لحّن «اليوم اليوم اليوم النصر»، أًحدَث ثورة في مصر.
● هذا يعني أنك شكلتِ مع عفيف رضوان ثنائياً فنياً؟
– نعم، كما تعاونتُ في تلك الفترة مع فيلمون وهبي، ثم انضم إليهما شفيق أبو شقرا.
● هل صحيح أن انطلاقتك الفنية الحقيقية كانت من سورية. ولماذا اخترتِ سورية وليس مصر، بما أن محمد عبدالوهاب أُعجب بصوتك وشجعك ووعدك بلحن منه بمجرد زيارتك لمصر؟
– وهل يمكن أن أسافر إلى مصر من دون وجود سلاح بين يديّ؟ لم يكن يوجد في رصيدي أي شيء. وفي هذه المرحلة كانت أغنيات مهدت للمرحلة اللاحقة في مصر، ولا سيما بعدما تعرّفتُ إلى ملحن لقبه «أمير البزق»، واسمه عبدالكريم. كان عبقرياً وألّف لي لحن «رقة حسنك وسمارك» الذي رقصتْ عليه دمشق عن بكرة أبيها، وهو الذي بنى شهرتي في سورية وعلاقاتي مع عائلات الشام التي صارت تتخاطفني وأصبحتُ مطربة البيوت الشامية. لم يكن يُسمح لي بالإقامة في الفنادق، بل كانوا يصرون على أن أبيت أنا ووالدي في أحد البيوت الشامية، وكانت كل البيوت بيوتنا، وفي المقابل، كنا نستقبل أي شخص من أصدقائنا السوريين في بيتنا.
● كم هي المدة التي مكثتِ فيها بسورية؟
– نحو 3 سنوات، ولكن في شكل متقطع. كنت أمكث ثلاثة أشهر في الشام وعشرة أيام في بيروت، إلى أن تلقيتُ عرضاً في العام 1949 للغناء في العراق. وكانت تلك المرة الأولى التي أغني خلالها في العراق.
● وهل كان والدك هو الذي يدير أعمالك؟
– نعم. كان يرافقني مع الوالدة وشقيقي الكبير عصام (رحمه الله).
● وهذا يعني أنه تخلى من أجلك عن عمله في الإذاعة؟
– هو أخذ إجازة، ولكنه لم يعد إلى الإذاعة، وفي العام 1951 حل مكانه حليم الرومي (رحمه الله).
● وكيف تتحدثين عن تجربتك الغنائية في العراق؟
– في العراق، غنيتُ لمدة شهر في منتجع «روكسي»، وهو كان من أهم المنتجعات الراقية فيها. وخلال انتقالنا بالباص من سورية إلى العراق، توقف الباص في استراحة اسمها «الشاي خانة»، فقصدها والدي بينما كنت غارقة في النوم، ولكنه ما لبث أن عاد على الفور وأيقظني وقال لي: «رح تشوفي شي رح يفرحّك مدى العمر». ثم توجهنا نحو الإستراحة، وعندما وصلنا إلى مدخلها قال لي «انظري»، فرأيتُ صورة كبيرة لي مثبتة ومكتوباً تحتها «المطربة الناشئة نجاح سلام». فبكيتُ من الفرح لأن صورتي موجودة في الصحراء. في العراق، مدّدنا العقد وأصبح بدل شهر، شهرين، ثم 3 أشهر وبعدها 4 أشهر. وتعرفتُ إلى كل فناني العراق، ومن بينهم ناظم الغزالي، الذين كانوا يحضرون حفلاتي.
● وكم كان عدد الأغنيات التي تملكينها في رصيدك حينها؟
– 3 أغنيات، ولكن إلى جانبها كنتُ أغني لأم كلثوم في الحفلات الكبيرة. وفي الأفراح كنتُ أقدّم الأغنيات الشعبية. الشهرة الكبيرة التي حققتُها في سورية والعراق وصلت إلى لبنان. وصارت الصحافة الفنية في بيروت تكتب عني من خلال نجاحاتي في سورية والعراق وأيضاً من خلال شهرتي عبر الإذاعة السورية التي كانت مسموعة جداً. ولذلك، يقال إن نجاح سلام «هي بنت سورية فنياً». وعندما عدتُ إلى لبنان، كانت ذكرى الجدّ، قد خفت قليلاً، وبدأت انطلاقاتي في أوائل 1951.
● ومن هن أبرز المطربات اللواتي كنّ موجودات على الساحة الفنية حينها؟
– سعاد محمد ونور الهدى التي كانت عادت من مصر حديثاً، وزكية حمدان، وماري جبران التي كانت تقيم في سورية وتزور لبنان.
● وفيروز؟
– فيروز كانت تغني في الكورس.
● وصباح؟
– كانت تقيم بشكل شبه دائم في مصر.
● من المعروف أن شهرتك وصلتْ أيضاً إلى فلسطين. كيف تتحدّثين عن تلك المرحلة؟
– في العام 1947، أي قبل حصول النكبة بأشهر معدودة، غنيتُ للشاعر بولس سلامة قصيدة وكأنها تتنبأ بما سيحدث، وتقول: «يا زائراً مهد عيسى احذر الدرب فقد صار أتونا». ومن بعدها اتجهتُ إلى الغناء الوطني الرومانسي، فغنيتُ «يا ختي يا عايدة يا فلسطينية» كي أحفز النساء الفلسطينيات على النضال، ليس بالسلاح بل بمساندة أزواجهن الذين يقاتلون على الجبهة، وتشجيعهن على الاهتمام ببيوتهن وعائلاتهن. كما غنيتُ لفلسطين «عيون البرتقال» من ألحان رياض السنباطي، ومن المعروف أن فلسطين مشهورة بزراعة البرتقال.القرطاس