حسنا فعل أستاذنا جميعا « سي محمد البريني » وهو يقرر إصدار نسخة من مقالاته التي سبق ونشرها متسلسلة ذات صيف في « الأحداث المغربية » تحت عنوان جد مثير « قصص من زمن الرقابة » في كتاب..
حسنا فعل، لأننا نتلقى مثل هاته المبادرات في الزمن الصحفي الرديء الذي نحياه الآن مثل طوق نجاة يمتد لنا بين الفينة والأخرى، يعيد لنا بعض الأمل في الممكنات، ويقول لنا بأن الأشياء لم تحسم وإن كنا نرى ذلك رؤى العين لصالح مزيد من السقوط.
أمثال سي محمد البريني في مشهدنا قلة قليلة، وأنا أعتبر منذ كنت أشتغل تحت إمرته – ولازلت رمزيا كذلك – ألا حق لهم في الصمت، ولا حق لهم في الفرجة علينا، ولا حق لهم في عدم نقل تجربتهم إلى هاته الأجيال التي تتوالى بعدهم والتي تبقى لها المهنة في عنقها دينا أحيانا تؤديه خير الأداء، وأحيانا تسيء له ولا تعرف كيف تتعامل معه.
ولسوء أو لحسن حظنا – نحن جيل الوسط – وجدنا أنفسنا في مرحلة بين المرحلتين: قرأنا وعاصرنا واشتغلنا لحظنا البهي مع كبار مثل البريني والسحيمي والمساري واللائحة المجيدة التي صنعت المهنة في المغرب، ثم امتد بنا المقام في الزمن إلى أن عاصرنا « الوليدات والبنيات ديال دابا » ولا وصف سيء أحتفظ به عن أغلبيتهم، بل إنني من عشاق فسح المجال للأجيال الجديدة ومن المؤمنين بأن الخلود لله وحده وأن الخاسر دوما هو الأقدم في العملية كلها، لكن ما نكتشفه، مانتلوه، ما نطالعه، مانراه هنا وهناك وخصوصا في المواقع وما أدراك ما المواقع – وهي كلمة يرن فيها صدى الوقوع بقوة – يجعلنا نحزن، نأسف، نتألم، ثم نتذكر أننا اشتغلنا مع الكبار وأن لهؤلاء الكبار دورا لابد من أدائه، وأضعف الإيمان أن يقولوا لنا، أن يحكوا، أن يعيدونا إلى بدايات البدايات، أن يفسروا لمن انتفخت رؤوسهم غرورا وكل رأسمالهم في الحرفة بعض سنوات أن آخرين عبروا المكان بالعمر كله لكي يؤسسوا له ماوقف عليه الآن، وأن الكلمة في زمن آخر كانت تعني السجن، وكانت تعني المنفى وكانت تعني التضييق الرزق، وكانت تعني القتل -رحم الله عمر بن جلون – وكانت تعني كثير الأشياء السيئة.
اليوم الشباب وجدوها سهلة هينة، بالكاد يتهجى بعضهم أحرفا قليلة، ولا علاقة له بكتب أو منشورات أومقالات سبق أن قرأها ويتجرأ على الجميع، ويقول لك « لدي مليار شخص يتبعني في الفيسبوك إذن أنا مؤثر، إذن أنا موجود » حتى ضاع التأثير وضاع معنى التأثير وضاعت الكتابة وتفرق دمها بين القبائل وأصبحت ممكنة لأول أمي عابر، يستطيع أن يضع الحرف قرب الحرف ويقول للناس « حتى أنا صحافي ، مال والديكم؟ » وهكذا دواليك…
طبعا فقدنا الأمل في الرسميين أن يقننوا لنا ميداننا، وفهمنا أنهم يريدونه هكذا بالتحديد: فوضويا متشابها « لارأس فيه يعلو على الرؤوس مهنيا لكي يسهل قطع أي رأس متى شاؤوا ذلك »، ومرة أخرى لم نقل لهم شيئا ولم نعترض. تقبلنا ونحن قوم مؤمنون، وقلنا آمين، وانتظرنا أن نسمع رئيس حكومتنا الموقر الذي كان مدير جريدة دون أن يقرأ الصحافة ودون أن يبرع فيها يصف الإعلام في بدء المجلس الحكومي بأنه « حقير » قبل أن يبادر المونتاج إلى توضيب مايمكن توضيبه من معوجات الوقت التي لن تستقيم أبدا.
قرأت في ليلة واحدة كتاب السي محمد البريني، وقد سبق لي أن قرأته في الجريدة متسلسلا، فطار النوم من عيني، ووجدت شعور حزن شديد يلفني وأنا أطالع الوجوه المحيطة بنا اليوم، ووجدت السؤال يسأل نفسه بقوة في ذلك الليل البهيم « إلى أين آولد الحاج؟ »
لم أكن أعتقد أن هذا هو الشعور الذي سأخرج به بعد القراءة، ولم أكن أعتقد أن أول قرار سأقرره صبيحة الجمعة بعد الانتهاء من القراءة هو الكف عن المهنة، والبحث عن « مخرجات ومدخلات» أخرى في الحياة أقل التباسا وأكثر وضوحا وأكثر شرفا وأكثر احتراما للنفس وللآخرين قبل النفس وبعدها
طبعا لن أستطيع، فقد اخترتها ولم تخترني ولم آت إليها هاربا من جوع أو فاقة، بل اعتبرتها أنبل ما في الوجود ومهنة لا تعطي نفسها « لمن والا »
سوى أنها – اللعينة العاهرة- خدعتني وسلمت نفسها للجميع، وهاأنا « مقصر معاها وصافي » أراها تذهب وتعود، أقنع النفس أنها لي وإن كنت أراها نائمة مع الجميع دونما استثناء، ويوميا تلد لنا « الحرامي الأعور » الذي علمنا المأثور أن أيدينا جميعا رفقة يد القابلة الشهيرة لن ينجباه إلا هو
شكرا سي محمد لأنك كتبت ماكتبت وإن كنت قد نجحت في تقليب المواجع علينا ونحن عالقون في هذا المكان.
بقلم: المختار لغزيوي.