في خضم الحرب الباردة و الساخنة أحيانا في علاقة المغرب و جبهة "البوليساريو"، بعد الجولة الأخيرة للأمين العام للأمم المتحدة للمنطقة وما تلاها من مسلسل لشد الحبل بين الرباط و بان كي مون، نعود إلى الوراء قليلا لنسلط الضوء على جزء من الذاكرة القريبة حين جلس المغرب للتفاوض مع "البوليساريو" بعد نجاح الأمم المتحدة في إقناع طرفي النزاع على توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار سنة 1991.
وخلال المعطيات التي سنسردها سيحس القارئ لا محالة بمرارة الفرص الضائعة التي لم يكتب لها أن تنهي هذا النزاع الذي استمر لأزيد من 40 سنة ولا زال، وكانت أبرز "فرصة ضائعة" حينما قبلت "البوليساريو" بمقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المبعوث الأممي في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهو المقترح الذي رفضه إدريس البصري حينها، في الوقت الذي لم يخف الحسن الثاني رغبته في إقامة نموذج فيدرالي في المملكة على الطريقة الألمانية.
ايريك جانسن، الذي عينه الأمين العام السابق للأمم المتحدة المصري بطرس غالي مبعوثا شخصيا له لحل نزاع الصحراء، في الفترة الممتدة ما بين 1993 و 1996، روى تفاصيل مثيرة عن مجموعة من الاجتماعات السرية بين المغرب و "البوليساريو" في حوار أجراه في وقت سابق مع جريدة "الشرق الأوسط" اللندية.
ويقول أيريك جانسن: بصفتي رئيسا لبعثة "مينورسو" كنت مصرا على أن أكون موجودا باستمرار في المنطقة، وهو ما أعطاني امتياز إقامة علاقات وروابط شخصية مع المسؤولين الأكثر أهمية لدى الطرفين.
وتمكنت من الحصول على ثقة الطرفين التي خولت لي الذهاب بعيدا لإيجاد حل للمشكلة. وأذكر أنني شرحت للأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بطرس غالي كيف أنني لا أعتقد أن مخطط التسوية سوف يحل النزاع، ووجدت غالي يشاطرني الرأي، واقترح تنظيم لقاءات مباشرة بين المغرب وجبهة البوليساريو، وهذا ما دفعني إلى القول إنه إذا تمكنت من تحقيق ذلك سنكون أمام الطريق الذي يوفر أكثر الإمكانيات لحل النزاع. صحيح أننا واصلنا مسلسل تحديد الهوية بيد أن العملية تعثرت ودخلت في حالة انسداد.
* وماذا كانت الخطوة التالية للخروج من حالة الانسداد هذه؟
– في تلك الأثناء حاولت إقناع المغرب، عبر إدريس البصري، وزير الداخلية آنذاك، وجبهة البوليساريو عبر البشير مصطفى السيد، الرجل الثاني فيها آنذاك، أنه حان الوقت لجمع الطرفين مع بعضهما البعض. كان ذلك عام 1996، وبدا أن جبهة البوليساريو كانت متحمسة لذلك ولديها مصلحة في عقد اللقاء، لكن بالنسبة للمغرب وجدنا صعوبات في إقناعه بالجلوس مع جبهة البوليساريو في طاولة واحدة بيد أنه وافق في الأخير على ذلك.
* وماذا كانت قاعدة هذا اللقاء؟
– قاعدة هذا اللقاء وجدتها عن طريق الصدفة. ذلك أنني كلما كنت في مباحثات مع البصري أو مع مصطفى السيد كانت هناك دائما طاولة مستطيلة، وكنت أشير بيدي إلى جانب الطاولة التي يجلس عليها البصري أو يجلس عليها مصطفى السيد. وقلت نحن هنا أمام دعوة إلى الاندماج التام، وأشرت إلى الجانب الآخر من الطاولة وقلت هنا نحن أمام دعوة إلى الاستقلال التام، وزدت قائلا: يجب علينا أن نناقش ما يوجد بين الاثنين، أي الاندماج التام والاستقلال التام. ووافق الطرفان على ذلك، وكنت على يقين أن جبهة البوليساريو كانت على اتصال بالجزائر، وأعتقد أن البصري حصل بدوره على موافقة الملك الحسن الثاني، وبالطبع جرى ذلك اللقاء بشكل سري. إذ كان من بين شروط موافقة المغرب على اللقاء ضرورة أن يظل الأمر سريا لدرجة أن البصري أبلغني أنه في حالة تسرب أخبار اللقاء إلى الإعلام فإن المغرب سينفي ذلك جملة وتفصيلا، وسيكف عن المشاركة في أي لقاء مقبل، وهذا كان أمرا صعبا. وهكذا جرى اللقاء الأول السري في جنيف منتصف غشت 1996، وترأسه عن الجانب المغربي إدريس البصري، وزير الداخلية، الذي كان رفقة مستشارين له ضمنهما المحافظ محمد عزمي، بينما ترأس جانب جبهة البوليساريو البشير مصطفى السيد، الذي كان أيضا مرفوقا بمستشارين.
وفي ذلك اللقاء اشترطت جبهة البوليساريو أن يكون اللقاء الثاني إما مع الملك الحسن الثاني أو مع ولي عهده آنذاك (الملك محمد السادس حاليا)، كما اشترطوا ألا يحضر اللقاء قادة جبهة البوليساريو المنشقون الذين عادوا إلى المغرب.
وبالفعل جرى اللقاء الثاني في الرباط، وتم على مستوى عالٍ، إذ ترأسه عن الجانب المغربي الأمير سيدي محمد، ولي العهد. وترأس وفد البوليساريو البشير مصطفى السيد، وشارك فيه إبراهيم غالي، وزير الدفاع آنذاك، ومحفوظ علي بيبا، رئيس وزراء الجبهة، ومحمد خداد، المنسق مع بعثة المينورسو.
وروعي في وفد جبهة البوليساريو التوازن القبلي. بيد أن هذا اللقاء لم يعط نتائج آنية. ويمكن القول إن لقاءي الرباط وجنيف شكلا المرة الأولى التي يلتقي فيها الطرفان وجها لوجه في مباحثات جادة. وأذكر أن الأشخاص الذين كانوا على دراية بملف الصحراء تفاجأوا بتحقيق تنظيم هذين اللقاءين، وضمنهم الأمين العام للأمم المتحدة.
صحيح أن اللقاءين لم تنتج عنهما نتائج في الحين، وهذا شيء طبيعي، لكننا بعد لقاء الرباط بدأنا في إعداد لقاء ثالث، بيد أن التوقيت لم يكن مناسبا وملائما بسبب تزامنه مع انتخابات الأمانة العامة للأمم المتحدة التي لم يتمكن فيها بطرس غالي من الظفر بولاية ثانية بعد أن وضع الأمريكيون فيتو على إعادة انتخابه.
وكانت مادلين أولبرايت، مندوبة واشنطن الدائمة لدى الأمم المتحدة، التي كانت تستعد لشغل منصب وزيرة الخارجية، قد وعدت بإقصاء غالي من الأمانة العامة للأمم المتحدة مهما كان الثمن، وبالتالي بدا أنه لا الأمين العام، ولا الأمريكيون كانوا آنذاك على استعداد لفعل شيء من أجل التقدم في ملف الصحراء.
* لقد طرحتم على طرفي النزاع فكرة إقامة حكم ذاتي في الصحراء، وافق الطرفان على ذلك، فهل استجابت جبهة البوليساريو والمغرب بسهولة لفكرتكم؟
– تبعا لما كنت أتحدث عنه، أود القول إنه في تلك الأثناء بدت جبهة البوليساريو أكثر استعدادا للبحث بجدية إمكانية قيام حكم ذاتي في الصحراء. لا توجد لدي وثائق بشأن ذلك ولكن محمد عبد العزيز أمين عام جبهة البوليساريو قال في ما بعد إن ذلك كان صحيحا، وهذا ما أكده لي أيضا البشير مصطفى السيد.
وبالنسبة للمغرب، قال لي إدريس البصري إنه مستعد لنقاش ذلك. لكنني رأيته يصرح بعد لجوئه إلى منفاه الباريسي عقب إعفائه من وزارة الداخلية بأنه كان شخصيا ضد الحكم الذاتي بنسبة 100 في المائة. هذا مع العلم أن الملك الراحل الحسن الثاني بدأ بعد تلك الفترة في التفكير بجد في الأمر، وأبلغ بذلك روبرت زوليك، مساعد وزير الخارجية الأمريكي، كما أنه سبق له أن تحدث في حوار صحافي أدلى به عام 1992 عن النموذج الفيدرالي الألماني، وإمكانية تطبيقه، ولكن في الأخير تمت إضاعة الفرصة، وبالتالي فإن ما وقع كان في الحقيقة تغييرا كبيرا في المواقف.