كانت لحظة إنسانية جد مؤثرة، تتبعها العالم مباشرة من العاصمة الأردنية عمان. حين وصلها خبر التفجيرات الإرهابية التي هزت بروكسيل وهي في قلب ندوة صحفية مع وزير الخارجية الأردني، لم تتمالك فريديريكا موغيريني، المسؤولة العليا للسياسات الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي، نفسها وقد سالت دموعها أمام كاميرات وعدسات المصورين، أكيد أنها دموع الحزن على الضحايا من قتلى وجرحى، لكنها أيضا دموع مرارة وإحباط، الإرهاب نجح مرة أخرى في أن يضرب في القلب الرمزي لأوروبا، فبعدما هز في نونبر الماضي عاصمة فلسفة الأنوار، هاهو يستعرض وحشيته وهمجيته في قلب عاصمة أوروبا، غير بعيد عن مقر البرلمان الأوروبي وعن مبنى المفوضية الأوروبية ، وباختصار شديد : في عمق مؤسسات السيادة الأوروبية.
ولموغيريني كامل الحق في أن تبكي، الإرهاب يهزم أوروبا والعالم حتى الآن، من الكوت ديفوار إلي مالي والجزائر حيث تتحرك مجموعات القاعدة ككتبان رمل عصية على التوقيف، ومن تركيا إلى فرنسا مرورا ببلجيكا حيث تستعرض داعش وحشيتها، لم تنجح استخبارات العالم المتحضر بكل ترساناتها التقنية ومواردها البشرية وعتادها الحربي في وقف هذا المد الطافح بالدم والهمجية. وما يحدث حتى الآن هو مجرد استعراضات خطابية خلف الكاميرات ونفس الجمل تترد دون مفعول: «على العالم أن يتحد».. «علينا الكثير من اليقظة والحزم»، وبين هذا وذاك كثير من تبادل عبارات الأسى والتضامن.
لكن موغيريني ورغم هول الصدمة والإحساس بالضعف، اختارت أن تنسحب من منصة الندوة الصحفية، كفكفت دموعها وطلبت من مضيفها وقف اللقاء المباشر مع الصحفيين بعد أن عبرت عن مواقف حزن مبدئية، لقد فضلت الانسحاب على أن تطلق الكلام على عواهنه، ولم تفعل مثل ماتيو رينزي رئيس الوزراء الإيطالي الذي وقف أمام الكاميرات يتبجح بخبرات وقدرات المخابرات والقوات المسلحة الإيطالية في مواجهة مثل هذه الأزمات، قبل أن ينتقل إلى ارتكاب حادثة سير ديبلوماسية لا تليق بمقامه كرئيس دولة أوروبية في زمن الإسلاموفوبيا وتنامي مشاعر العنصرية التي يغذيها اليمن المتطرف ضد المسلمين بأوروبا، هكذا وبدون تفكير أو تحفظ ديبلوماسي قال الرجل إن ما يحدث خطر إسلامي، والحال أنه، وكما يقول فرونسوا هولاند الذي يختار كلماته بعناية خطر إرهابي أولى ضحاياه هم المسلمون.
وفي المغرب أيضا هناك ردود فعل عاطفية على ما يحدث، وقد قرأت لزملاء لي لهم تأثير في صناعة الرأي العام المغربي يقولون إن معركتنا اليوم هي بين المسلمين والإسلاميين، طبعا الغاية نبيلة وهي استرجاع الدين من القرصنة التي يتعرض لها، لكن التوصيف خاطئ، وما قد يترتب عنه خطير للغاية، الإسلاميون ليسوا كلهم إرهابيين، وإعلان الحرب بين الإسلاميين والمسلمين يعني إشعال نيران فتنة أهلية وحروب إقليمية، والحال أن ما يجري هو مواجهة بين الإنسانية بمسلميها ومسيحييها ويهودها وعلمانييها وملحديها … وبين البربربة التي تتخذ الدين وقودا إيديولوجيا لتأجيج عقيدة القتل والتدمير.
وما يصدر عن بعضنا في حالة الانفعال هو ما يريده إهابيو داعش والقاعدة بالضبط، أن نفقد البوصلة تحت تأثير الغضب وردات الفعل غير المحسوبة، أن نحول الحلفاء إلى خصوم ونجعل الخصوم خارطة بلا عنوان أو حدود، قد نختلف مع إسلاميينا الموجودين في برلماناتنا والمقاطعين لانتخاباتنا، لكنهم قطعا ليسوا إرهابيين، وحتى إن لم يكونوا حلفاءنا الإيديولوجيين، فإنهم يمثلون بالنسبة إلينا في التيار العلماني الذي ينادي بفصل الدين عن السياسة، حلفاء موضوعيين في الحرب على التطرف العنيف، وفي هذه المواجهة المفتوحة مع الجريمة الإيدولوجية المنظمة.
إذا ما تتبعنا منطق رئيس الوزراء الإيطالي ومنطق بعض صناع الرأي العام في بلدنا، لن نواجه فقط تعبيرات الإسلام السياسي السلمية في بلدنا، ولن يحارب الأوروبيون المسلمين فقط، سيكون علينا أيضا أن نعيد إنتاج نسخة رديئة من الإسلاموفوبيا، وأن نعلن الحرب على تركيا التي يقودها حزب إسلامي، ونفتح جبهة المواجهة مع إيران التي يحكمها الفقهاء، والحال أن إيران وتركيا. ومهما كانت اختلافاتنا معهما في تقييم الأوضاع الإقليمية، هما أيضا حليف موضوعي لنا في الحرب على القاعدة وداعش.
من يريد أن يواجه الإرهاب الأعمى، عليه ألا يفقد البصيرة ويسقط في ردود الفعل العاطفية غير المحسوبة العواقب، وعيله أن يأخذ العبرة من فريديريكا موغريني، في حالة الحزن والتأثر لا ينبغي للمواقف أن تصدر عن انفعالات اللحظة، إنها الأخطاء التي يريدها منا أصحاب أبو بكر البغدادي ومختار بلمختار وعبد المالك درودكال، أن نستسلم للخوف، وأن نخلط بين الحليف والعدو، لكن عقلاء البشرية حتما لن يسقطوا في هذا الفخ، وحكماؤهم حتى الآن يعتبرون ما يجري حربا بين الإنسانية وبين الإرهاب وليست بين القيم الأوروبية ودين الإسلام، وما جرى أيضا في بروكسيل وقبلها في باريس معركة تخسرها الحضارة، لكنها حتما وإن هي رصت صفوفها وعقلنت ردود أفعالها، ستربح حربها على حمقى الله في الإرهاب الإيديولوجي باسم دين الإسلام، وعلى مجانين الحضارة في اليمين المتطرف باسم الهوية الأوروبية المنغلقة.
يونس دافقير