بعض الناس يعتقدون أنهم يفهمون أكثر من غيرهم.
الكثير ممن يُعتقد أنهم يشكلون الرأي العام الافتراضي جلسوا طوال يوم الأحد خلف شاشات حواسيبهم، في الوقت الذي كان فيه مئات الآلاف من مواطنيهم المغاربة يحتشدون في العاصمة دفاعا عن الوحدة الترابية وللتعبير عن غضبهم من تصريحات بان كيمون. لا أحد هنا بالضبط أقل وطنية من الآخر، لكن …
«علماء الفهم» هذه المرة تحولوا إلى تحليل المسيرة الشعبية، واعتبروا أن الناس البسطاء بالخصوص الذين انتقلوا على متن الحافلات والسيارات والقطارات وكل وسائل النقل المشروعة طبعا، شدوا الرحال إلى الرباط طمعا في شيئا ما، وهناك من قال إن ما كان يهم بعضا منهم هو إمضاء عطلة أحد خارج مدينته، وآخرون قالوا إنهم سافروا خوفا من المقدم والشيخ والقائد، وفريق آخر قال إن استجابتهم لنداء المنظمات السياسية والجمعوية كان لمجاملة بعض المنتخبين.
ومن حيث لايشعر هؤلاء «الفهماء» فإنهم يلتقون مع بان كيمون في طرحه عندما دبج بيانا عقب المسيرة قال فيه «إن المتظاهرين ورعاتهم شوهوا زيارته للمنطقة»، وهي الزيارة التي عبر فيها عن تضامنه مع ما وصفه بالشعب الصحراوي المحتل، وفي ذلك وصف للمغرب بأنه دولة احتلال وهي الأسطوانة المشروخة التي ما فتئت جبهة البوليساريو تكررها في كل حين.
غير أن أشد ما يؤلم في اتهام الناس بهذا الشكل هو تحويل هؤلاء المواطنين إلى موضوع سخرية ونكتة، لا لشيء سوى لأن بعضهم لم يتمكن من متابعة دراسته أو أنه لم يلج قط فصل الدراسة ولا يعرف التعبير عما يخالجه من مشاعر وأفكار بل لا يعرف حتى نطق اسم بان كيمون.
أليس الدفاع عن الوحدة الترابية أهم من هذه التفاصيل؟
إظهار هؤلاء المواطنين بهذه الصورة والطعن في الهدف من حلولهم بالرباط، ومنهم من قضى الليل بأكمله يطوي الطريق من أقصى نقطة في الجنوب كي يكون في الموعد، هو تبخيس من قيمتهم، وعوض أن يضرب بهم المثل كي يكونوا قدوة للجيل الناشئ، أو مناسبة للترويج للقضية الوطنية، كان نصيبهم هو التبخيس والسخرية. ولعل الافتقاد إلى القدوة في حياتنا اليومية هو واحد من الآفات المؤثرة في التنشئة الاجتماعية اليوم.
العديد من الجالسين خلف الشاشات وهم طبعا، لا يقلون وطنية عن غيرهم، غير متابعين لقضية الوحدة الترابية بشكل دقيق ويتقاسمون ذلك مع جزء ممن خرج في المسيرة، لكنهم يزايدون على غيرهم ويعتبر بعضهم -وهذا رأي يخصهم- أن الرد على بان كيمون يجب أن يكون ديبلوماسيا، وهو رأي لا نختلف معه، لكن للشعب المغربي هو أيضا رأي خرج كي يعبر عنه، وهو بالمناسبة رأي حول قضية توحد كل المغاربة.
مسألة القضايا الموحِّدة لم تعد اليوم تجمع مواطني العديد من الدول، وهذه هي قوة المغاربة الذين مازالت قضية الصحراء توحدهم وتجمعهم مهما اختفلت وجهات نظرهم لمعالجة الموضوع ومهما اختلفت ثقافاتهم وأصولهم الأمازيغية والصحراوية والعربية… والأمر في نهاية المطاف يتعلق بمسألة سيادة ذلك أن الوحدة الترابية هي من أولى مقومات الدولة، ثم إن قضية الصحراء عرفت على امتداد تاريخها تدخلات أجنبية معادية للمغرب على رأسها الجزائر ثم ليبيا في جاهلية معمر القذافي وهما البلدان اللذان استقطبا إليهما في بداية النزاع العديد من الدول الافريقية وأخرى كانت تعيش أحلام الثورة، منها من تراجع عن موقفه اليوم ومنها من لايزال يستفيد من ريعه.
الاختلاف بين المغاربة لا يفسد للود قضية، غير أن كثرة الفهم تفقد المنطق السوي، إذ ما الغاية من الاستهزاء من المواطنين الذين شدتهم حماستهم إلى الرباط، ولكأن الأمر هنا تبخيس من قيمة شهداء القضية الذين دافعوا بأرواحهم من أجل حبات الرمل تلك، وهو إساءة إلى تاريخنا من حيث لا ندري، الأمر الذي يستوجب قليلا من الحكمة فنحن جميعا مدينين لهذا الوطن الذي يجمعنا، والذي يعمل آخرون على بث بذرة الانفصال فيه.
وعوض أن نكيل للمشاركين في المسيرة الاتهامات ونستقبلهم بالسخرية، الأجدر بنا هو التفكير في كيفية تحويل هذه المسيرة الشعبية إلى سلاح في يد ديبلوماسيينا، على زلاتهم، يسمح لهم بترويج وجهة نظر المغربية باعتبارها قضية شعب وليس فقط ترويج لرأي مسؤولين حكوميين، وهذا يفرض على هؤلاء الديبلوماسيين أن يكونوا على بينة بعلاقة هذا الشعب التاريخية مع قضيته.
محمد أبويهدة