تتضارب الأخبار حول الوقت المحدد الذي استيقظ فيه من النوم صبيحة الأحد. ففيما تؤكد مصادر متطابقة أنه ‘‘ فاق وجمع راسو ‘‘ في الرابعة صباحا، تفيد أنباء أخرى لا تقل صحة أنه كان مستعدا في الخامسة صباحا. آخرون يجمعون أنه شوهد بين السادسة والسابعة صباحا، يبحث عن وسيلة نقل تأخذه للعاصمة الرباط ، وأنه لم يبحث فيها عن راحة أو فخامة أو امتياز، بل استقل كل آلية صالحة للركوب، من الشاحنة الصغيرة إلى ‘‘ الهوندا ‘‘ ومن الدراجة النارية إلى ‘‘ الكار ‘‘.
شوهد أيضا يحمل علم المغرب، فوق رأسه، بين الأكتاف، في معصم اليد … لا يهم. المهم أن حضر للاستجابة تلقائيا لدعوة داخلية ظلت تعتمل فيه، وتحثه على الانضمام إلى الملايين، في خط الدفاع الأول عن مغربية الأرض التي لم يلقنه أحد كيف ولماذا يحبها.
ليس هناك إجماع أيضا حول ما إذا كان قد غادر من المدينة أو القرية، من المدشر أو الدوار، من الحي الراقي أو الشعبي البسيط. إنه ممتد في هذه الأرض الطيبة ، في كل شبر من ترابها، وفي ذلك اليوم تحديدا لم يشعر باختلافاته الاجتماعية والاقتصادية، ولم يتذكر إن كانت السنة الفلاحية، جافة أم مطيرة، كما تناسى انتماءاته الحزبية والنقابية والسياسية. يقال أيضا أنها نسي ألوان فرقه المفضلة في كرة القدم، وإدمانه على الفايسبوك والمواقع الاجتماعية، وقنواته التلفزيونية المفضلة شرقية كانت أو غربية. نسي حتى إن كان يصلي أم لا … فالموعد اليوم مع حب يلخص كل الوجود : حب المغرب فقط .
قد يحمل في تقاسيم الوجه كل اختلافات التطور الطبيعي. الأبيض والملون، الأشقر والأسمر، ذي التجاعيد وفاقدها، الحادون والظرفاء، البسيطون والمركبون … كل المزايا الشخصية تنتفي أمام القضايا الكبرى. صحيح أن اليوم كان يوم الأحد، عطلته الأسبوعية في أغلب الحالات، لكنه اختلط بالطبيب والمهندس والجزار والرياضي والمعلم والبنكي و‘‘ مول الفراشة ‘‘ وسائق سيارة الأجرة والحافلة والخياط والميكانيكي والخراز … لقد استحال إلى شخص واحد تذوب فيه كل الفوارق، إمعانا في الانتصار لقضيته التي لا يحتاج فيها إلى غسل أدمغة أو ايديولوجيا شمولية محركة. لقد استحال إلى صوت يردد معنى واحدا : بلادي لي كاملة … كاملة.
لم يتعب ؟ لم يتعب . متربصون، ممن اختلطت عليهم الأمور ودخلوا في ‘‘ بيرغاطوار ‘‘ تعلق فيه أرواحهم في منزلة بين الوطني والخائن، رددوا السؤوال وأجابوا في اللحظة ذاتها. اتهموه بأنه جزء من قطيع منقاد . قالوا إنهم يتأففون منه لأنه يردد كالببغاوات من أجل ‘‘ خبزة وباطة ديال السردين ‘‘. جردوه من وطنيته التلقائية والبسيطة وانهالوا عليه بشتى أنواع الوصم والتمييز، فيما أخرج لسانه للجميع مرددا ‘‘ قتلتونا بشعاراتكم الخاوية أنتم الذين لا نعرف لكم شكل ولا روح ولا معنى ‘‘ ثم سار في الطريق إلى الرباط . لم يتعب ؟ أكيد لم يتعب، فهو مستعد للعودة إلى خط المواجهة الأول متى أحس بأن الوقت قد حان، مغرقا شرذمة المتربصين في ‘‘ هذيانهم ‘‘ ومؤكدا أن هنا لا مساومة، ولا مجال لصوت آخر غير صوت : المغرب . لم يتعب فمنذ أربعين سنة لم يتغير، موجود رغم كل شيء، وضد كل المتلاعبين بصوت الوطن.
ولأن ملامحه تجمع الشيب بالشباب، لم يتبين لديهم في رؤيتهم الضيقة إن كان قد ولد قبل أم بعد استكمال وحدة هذا الوطن، إذ نسبة كبيرة ممن جابوا شوارع الرباط صباح الأحد الماضي لم يكملوا الأربعين. يتسائلون في لؤم : من أين لك هذا الإحساس العارم يا صغير أنت الذي لم تعش نونبرا في 1976 ولم تحضر معركة في أمغالا، ولم تعاين جدارا أمنيا يبنى في عمق الصحراء ؟ يأتي الجواب سريعا : هذا حب نتربى عليه … نرضعه في حليب الأمهات … نسمعه في حكايات الآباء، من غرفنا الصغيرة البسيطة في أفقر المدن والبوادي، إلى أبذخ ضيعاتنا وقصورنا، مرورا بكل شروط وجودنا المختلفة اجتماعيا واقتصاديا. نحن واحد، وإن كنا ولدنا بعد كل الذي حدث. نحن امتداد لكل نقطة دم سالت، وعوض لكل أسرة بترت أطرافها، وبديل لمن سقط أو تعب .
وسط زحام الملايين والحشود المتلاطمة في الرباط أول أمس، عثر على أخته هناك مع رفيقاتها الأمهات والشابات والمسنات والصغيرات، تمارس حقها في الانتماء إلى الوطن . لم تأخده ‘‘ الحمية ‘‘ العادية التي تنتابه كل ما صادفها خارج البيت . انضم إليها وإليهن لمسايرتهن في الهتاف وجاب معها ما تبقى من المسيرة الخضراء والحمراء المليونية . لا مجال في ذلك الصباح الرباطي الندي لممارسة سلطة اجتماعية أو ووصاية ذكورية. لخصن بوجودهن هناك كل نساء المغرب، متوشحات برداء الأطلس الأمازيغي الجميل، و‘‘ الترازة ‘‘ الجبلية الحضارية، والحيك الصويري النادر، والملحفة الصحراوية الباذخة، والقفطان والجلابة. عقول نسائية وطاقات وكفاءات زاحمن الرجال في خط المواجهة الأول للدفاع عن قضية وطن، وشعب وأمة.
عاد في نهاية اليوم إلى البيت في المدينة والقرية، والدوار والمدشر والقصر والواحة . عاد وقد أسمع صوته، مع الملايين الهادرة، لمن يهمه الأمر . ‘‘ هنا ليس من مجال للدخيل والمتنمر، ليس من مجال للاعب و المقامر، ليس من مجال للهجين أو المستتر . في الأحد، وفي باقي الأيام، سأقف في خط المواجهة الأول حين يتعلق الأمر بالمغرب . ولا عزاء للمنهزمين ‘‘ .
كان هذا ملخص ما تناقلته الأنباء عن حالته النفسية ‘‘الإيجابية جدا‘‘ في آخر النهار .
بقلم سعيد نافع