أثارت انتباهي تلك الوثائق التي حصلت عليها القوات الخاصة الأمريكية عندما داهمت مخبأ أسامة بن لادن في باكستان عام 2011 ونشرتها الحكومة الأمريكية الثلاثاء الماضي، وهي تكشف عن أن قادة تنظيم القاعدة ناقشوا خطة للإعداد لاتفاق سلام مع الحكومة الموريتانية. وبشكل تلقائي تذكرت مواقف إسلاميين سلفيين مغاربة عارضوا تدخل القوات العسكرية الفرنسية في مالي، وأيضا ما يتبناه يسراويون راديكاليون مغاربة لا يرون مانعا في قيام دويلة انفصالية فوق تراب الصحراء المغربية من منطلق فهم «طوبيسي» ماضوي لمعنى الحق في تقرير المصير وتصدير الثورة.
وقد يتساءل القارئ عما يربط بين هذه المعطيات الثلاث ويعتقد أنها عناصر متناثرة لا خيط يجمع بينها، لكنها وعلى العكس مما يبدو في الظاهر من الصورة، متداخلة فيما بينها من زاوية أن هناك خطرا محدقا كان يتهدد أمننا على مشارف حدودنا الجنوبية، ولولا العمليات العسكرية ضد تنظيم القاعدة في مالي واعتراض حكماء العواصم الدولية المتعلقة على تحويل مخيمات تندوف إلي مشروع دويلة فاشلة، لكان ظهرنا عاريا على حدودنا الجنوبية، ولازدادت حجم الأعباء التي على قواتنا المسلحة أن تتحملها لتأمين ترابنا الوطني من مخاطر الإرهاب القادم من منطقة الساحل.
لنبدأ بما جاء في وثائق القوات الخاصة الأمريكية، فوفقا لوثيقة توضح مناقشات أجراها تنظيم القاعدة عام 2010 حول خطة السلام مع نواكشوط، كان سيلزم جناح التنظيم المعروف باسم تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي نفسه بعدم القيام بأي نشاط عسكري في موريتانيا لمدة عام مع إمكانية تجديد المدة ، وفي المقابل ستطلق السلطات الموريتانية سراح كل سجناء القاعدة وستتعهد بعدم شن أي هجوم على جناح التنظيم من أراضيها.وبموجب اقتراح القاعدة ستوافق حكومة موريتانيا أيضا على دفع مبلغ يتراوح بين 10 و20 مليون يورو (11 و22 مليون دولار) سنويا إلى تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي لتعويض المتشددين ومنع خطف السائحين. وعن الهدف الاستراتيجي لهذا الإتفاق اعتقدت خطة القاعدة أن التوصل إلى هدنة مع موريتانيا سيمكن جناح التنظيم من وضع أطره ومقاتليه في قواعد خلفية آمنة وسيمكن المجموعة من التركيز على الجزائر.
نحن الآن في سنة 2010 وفيها كانت القاعدة تبسط كامل سيطرتها على التراب المالي بعد انهيار مؤسسات الدولة الضعيفة هناك. وبالطبع ليس لدى موريتانيا لا القدرة ولا الإمكانيات التي تسمح لها بمراقبة حدودها مع مالي، ورغم أن المسؤولين الموريتانيين ينفون أن يكونوا قد نقاشوا اتفاقا من هذا القبيل مع القاعدة، إلا أن البراغماتية والواقعية الجيوستراتيجية لم تكن لتمنع نواكشوط من اتفاق من هذا القبيل ولو عبر تعديل بعض بنوده ضماما لزمن مواطنيها من تنظيم تغول وتقوى على حدودها الشرقية، ولو شاء القدر لهذا الإتفاق أن يتم، فكان ذلك؛ سيعني تحييد موريتانيا في الحرب على القاعدة، وبالنتيجة سيركز التنظيم الإرهابي كامل مجهوداته على الجزائر، ونحن نعرف الآن، ونحن في سنة 2016 أن المجموعات الإرهابية المرتبطة بالقاعدة، تفرض، وكما صرح بذلك عبد الحق الخيام مدير الكتب المركزي للأبحاث القضائية قبل أيام، سيطرتها على كامل الجنوب الجزائري.
لقد كنا إزاء تطورات جد مقلقة بالنسبة لأمننا القومي: تنظيم إرهابي يسيطر على دولة مالي، ويخطط لأن يتقدم نحو الجزائر، وبعد أن ينتهي من عملياته في مواجهة نظام سياسي ضعيف - لم تحل مخابراته وقواته العسكرية مقاتلي مختار بلمختار دون تنفيذ عمليته الدموية وهو يضرب في العمق الجزائري بمنطقة عين أمناس التي قتل فيها 23 رهينة سنة 2013- لاشيء كان سيمنعه من إلغاء اتفاقه مع نواكشوط ويحول موريتانيا الضعيفة عسكريا إلي قاعدة خلفية ثانية أو ثالثة
ولحسن الحظ حررت القوات الفرنسية والإفريقية مالي من مقاتلي القاعدة خلال المعارك التي تمت سنتي 2013 و 2014، فصار وقع التهديد أقل وقعا على موريتانيا ، لكن الجنوب الجزائري بقي تحت سيطرة الإرهابيين، وانضافت إلى المشهد المخاطر القادمة من الإنهيار الأمني الشامل في ليبيا، ودخلت في اللعبة تهديدات «داعش» التي تنقل أطرها ومقاتليها إلى منطقة الساحل هربا من القصف الروسي والأمريكي في سوريا والعراق. وها نحن اليوم نسمع الأمين العام للأمم المتحدة «بان كي مون» يقول الخميس الماضي من واغادوغو عاصمة بوركنافاسو «انني قلق للغاية ازاء الهجمات الارهابية التي تقع في منطقة الساحل». أما بالنسبة للمخابرات المغربية، فهي لاتخفي قلقها في تصريحات رسمية وهي تحذر من التقارب بين التنظيمات الإرهابية في الساحل والصحراء وتنظيم «داعش» في ليبيا.
والحق يقال أننا وأصدقاؤنا، وحتى خصومنا في المنطقة المغاربية، مدينون في أمننا القومي لمخابراتنا التي كانت سباقة منذ سنة 2004 إلى التحذير من مخططات إقامة مثلث للإرهاب يمتد جنوب الجزائر مرورا بمالي حتى الغرب الإفريقي، لكن السلفيين المغاربة الذين شككوا في تفجيرات 16 ماي الإرهابية بالدار البيضاء لم يكن بإمكانهم سوي التشكيك في نوايا التدخل العسكري الفرنسي ضد الإرهابيين في مالي ويعترضوا عل فتح المغرب لأجوائه أمام المقاتلات الفرنسية، ومن يدري فربما كانوا يتمنون لو تنتصر القاعدة ومجموعاتها في الساحل كي تؤسس على حدودنا الجنوبية إمارة يستوردون منها «الجهاد» في أمن وسلامة مواطنيهم هنا بالمغرب.
وفي هذه «البؤرة الجهادية» يلتقي هوى بعض السلفيين مع أوهام بعض اليسراويين الذي دافعوا في تنظيراتهم ذات زمن سبعيني عن إقامة دويلة في تندوف تكون منطلقا لتصدير الثورة الماركسية إلي الشمال المغربي، وهم لايأبهون اليوم بأن تسقط هذه الدويلة فريسة سهلة في أيدي الإرهابيين مثلما سقطت مالي، وربما مازال البعض منهم ، ممن لم يتخلص بعد من أوهام ديكتاتورية البروليتاريا، يرى في الحركة الإنفصالية في الصحراء حليفا ثوريا ضد «الرجعية المغربية» حتى وإن كل العقلاء في الداخل والخارج ينبهون إلى أن البوليساريو لا تعدو كونها حتى الآن حليفا لتنظيمات الإرهاب وليس لرفاق «النضال ضد الإمبريالية والإقطاع»، لكن للأوهام سلطانها على الأفهام التي تكلست وتحجرت حتى صارت لا تجد تمييزا بين الثوري والإرهابي، وبين الوطني والخائن لتاريخ شعبه وأمته.
يونس دافقير