أنا من جيل يعني له الإضراب العام الوطني شيئا واحدا فقط: دجنبر في فاس من تلك السنة البعيدة الآن التي كانت تسمى 1991، وبالتحديد الرابع عشر من ذلك الشهر الأخير من ذلك العام.
جيل فتح عين الفهم والاستيعاب على الأكبر سنا وهم يحكون لنا ما الذي وقع يوم أضربت الدار البيضاء في بداية الثمانينيات وبالتحديد في ال81، وكيف أطلق الرصاص نفسه على الناس، وكيف غنى الفقراء للنازلين في مدينة البيضاء درب من رحلوا، قبل أن تمر عشر سنوات وندخل الجامعة فنرى بأعيننا فاس العاصمة العلمية للمملكة تتحول إلى ساحة حرب بين الناس وبين القوات الأمنية، ونرى الاعتقالات ونرى الراحل بوزوبع كبير الملحون وهو يغني أمام سيارته التي أحرقها المتظاهرون، ونرى الفندق الشهير المطل على فاس القديمة يشتعل نيرانا ونرى عديد الأشياء.
لذلك وكلما رنت في الذاكرة عبارة “الإضراب العام الوطني” تأتينا تلك الصور دفعة واحدة، ولا تختار التدفق التدريجي بل تنهال دونما إرادة منا مع أننا نعرف أن عديد الأشياء، بل تقريبا كل الأشياء تغيرت.
اليوم تضرب النقابات مجددا في كل القطاعات، في مغرب آخر مخالف تماما لمغرب التسعينيات وطبعا مختلف بالكامل عن مغرب الثمانينيات. مغرب تحترم فيه الحرية النقابية وحرية الاحتجاج والتظاهر والقيام بالإضراب، ويقارن فيه الناس – خصوصا من عاشوا السنوات والعقود على اختلاف تغيراتها بين ماكان وبين ما أصبح، ويقولون لكل من يريد الإنصات إليهم “إن مياها كثيرة جرت تحت هذا الجسر المغربي، وأننا بالفعل قطعنا وادي الخوف من السياسة وأن أرجلنا يبست من مياهه”.
اليوم للإضراب العام الوطني معنى آخر وسؤال كبير يتعلق بمدى وصول احتجاجات النقابات إلى حكومة تعتقد منذ فاز الحزب الأغلبي الذي يقودها في تشريعيات 2011 ألا أحد يملك حق الحديث معها عن شيء.
حكومة تكتفي بعبارة واحدة ترد بها على كل منتقديها هي عبارة “أنتم ضد الإصلاح”. ومع حكومة “ملائكية” يرأسها شخص نوراني محاط بالحواريين مثل هاته تتصور أن كل ماتفعله صواب في صواب وأن كل مايفعله الآخرون خطأ في خطأ يبدو الإضراب العام الوطني فعلا أضعف الإيمان، وأقل شيء يمكن أن تشهره في وجهها النقابات وبقية الفعاليات.
قدرتنا الشرائية الجماعية تضررت، صندوق النقد الدولي استطاع تنفيذ عديد المقررات تحت شعار يقول ابن كيران للجميع “أنا حكومة شعبية وأستطيع تنفيذ قرارات لا شعبية بسهولة”، صندوق المقاصة وصناديق التقاعد وبقية الصناديق حكاية تورمت آذاننا من الإنصات لأحاديث الكثيرة وغير الواضحة عنها دون أن نستوعب إن كانت تتعرض فعلا لعملية إصلاح أم تتعرض لعملية تصفية أم تتعرض لعملية ثالثة بين العمليتين.
ثم هناك النقاش السياسي الذي أصبح شبه مستحيل مع الفرقاء الآخرين: عبارات التخوين والمطالبة بحل الأحزب كرد على أي تفوق آخر لحزب معارض لهاته الحكومة، واستيراد عبارات دخيلة علينا من قبيل “الدولة العميقة” وماشابه أنصت إليها الشباب الحكوميون في القنوات المشرقية أيام الحراك الشعبي حين كانوا لاينزلون إلى الشوارع ويكتفون بالفرجة على “الجزيرة” في انتظار قطف الثمار.
هاته المرة للإضراب العام الوطني في الذهن والوجدان وقع آخر لا أعرف إن كانت النقابات الموجودة بشيوخها وعلاتها الكثيرة وترهل القرار السياسي فيها قادرة على تشخيصه وتجسيده بالفعل، لكن أعرف أن عددا كبيرا من المغاربة يحس بالحاجة إليها.
أشياء عديدة ليست على مايرام، ولا يكفي أن نقول لمن يقول لنا هذا الكلام إنه ضد الإصلاح وكفى.
لا يكفي هذا الأمر على الإطلاق أيها السادة، لذلك حاولوا أن تسمعوا أصواتا أخرى غير أصواتكم، فالإعجاب بالصوت الداخلي يقترب بصاحبه من محادثة النفس أي من الجنون.
أعاذنا الله وإياكم من جنون الحكومات فهو فعلا أسوأ أنواع الحمق وأكثرها دمارا.
المختار لغزيوي