قال إنه تربى في اليسار، وتفاصيل الحكاية معروفة ولا داعي للعودة إلى تقليب بداياتها ونهاياتها، لكن الأهم بالنسبة لي فيما صرح به إلياس العمري عقب انتخابه أمينا عاما لحزب الأصالة والمعاصرة هو تأكيده أن «البام» يمكن أن يتموقع في وسط اليسار، بعدما اعتمد «الجوهر الاجتماعي للفكر الاشتراكي الذي يؤكد على أن الدولة ينبغي أن تحتكر الخدمات الاجتماعية، والجوهر الديمقراطي من الفكر الليبرالي الذي يعتمد التشاركية» ولأنه يعرف تركيبة حزبه جيدا والخليط الذي انبثق منه، لم ينف أن مكونات الحزب «جاءت من تيارات وتجارب مختلفة سياسيا ونقابيا وتنظيميا ومدنيا، واعتمدت تدبيرا يراعي الحد الأدنى من الديمقراطية».
حين استمعت لهذا التصريح، كان أول انطباع تولد لدي هو أن النسخة الجديدة من «البام» في عهد إلياس العمري تمد يدها لليسار، وسواء شاء اليساريون ذلك أو رفضوه، فإن الحزب يعلن انتماءه للعائلة اليسارية، وتبنيه للفكر الاشتراكي والديمقراطية الليبرالية. وقد كان من مكر الصدف أن يتزامن هذا التصريح مع النداء الذي أصدره الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي إدريس لشكر يدعو فيه إلى بناء بديل يساري جديد.
وسواء في إعلان إلياس العمري عن الهوية اليسارية لحزبه أو بحث لشكر عن تحالف يساري وازن، يلتقي الرجلان في أرضية مشتركة، إلياس يقول إن «الحزب تأسس بهدف مواجهة الإسلاميين ودفاعا عن المسلمين ونحن ندافع عن الدين وليس الفكر الديني، بحيث لا يجب الخلط بين السياسة والدين» أما إدريس لشكر فيقول في ندائه «إن مخاطر الردة واردة بشكل كبير، مسنودة من طرف الرجعية في المجتمع، ونحن ندرك أن جزء كبيرا من مشروع الرجعية الجديدة- إن لم يكن المشروع برمته- هو العمل على تعميم رجعيتها على المجتمع من أجل أن يسهل تعميمها على الدولة»، وفي ذلك يشير لشكر إلى «ارتفاع منسوب المحافظة في المرحلة الحالية، مع ما يصاحب ذلك من ولاءات عابرة للأوطان تهدد النسيج الوطني، بل الفكرة الوطنية نفسها».
قبل اختتام أشغال مؤتمر الأصالة والمعاصرة كان إدريس لشكر قد صرح بأنه ينتظر نتائج المؤتمر ليحدد موقفه من رفاق إلياس العمري، أما الآن وقد قال هؤلاء إنهم يساريون يتبنون الفكر الاشتراكي، فما على لشكر الذي جرب التحالف البرلماني مع «البام» قبل أن تعصف به مقالب الانتخابات سوى أن يجيب عن هذا السؤال: هل يعتبر «البام» حزبا يساريا وهل يقبل اليد الممدودة إليه من طرف إلياس العماري، مادام الرجلان يلتقيان في التوجس من تنامي مخاطر المد الأصولي المحافظ.
وربما أنها اللحظة السياسية والتاريخية التي يستدعي فيها اليساريون منهجهم الكلاسيكي في تحليل المراحل السياسية المقعدة بتمرينات ذهنية صعبة وليس بشعارات جاهزة: من هو التناقض الرئيسي الآن بالنسبة لليساريين هل هو «البام» المتهم بكونه يمارس التحكم من أجل الفوز بالمقاعد الانتخابية لكنه يتبنى حدا أدنى من قيم الحداثة، أم هي التيارات الدينية الأصولية التي تدعي الديمقراطية لكنها تجهز على مكتسبات الحداثة والديمقراطية.
الحقيقة المرة تقول الآن أنه لا يمكن لليساريين المجتمعين في فيدرالية اليسار ومعهم النهج الديمقراطي وباقي الشتات اليساري أن يصمدوا في وجه المد الأصولي الزاحف بقوة، والحقيقة الأمر تقول إن الاتحاد الاتشراكي يتآكل يوما بعد آخر، وفي ثالث الحقائق الأكثر مرارة أن حزب الاستقلال يسير نحو تعزيز صفوف المحافظة الدينية وهو يعلن منذ أسابيع عديدة أن مكانه الطبيعي مستقبلا سيكون إلى جانب حزب العدالة والتنمية.
بمنطق التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي ماذا لو طرح اليساريون السؤال التالي: ألا يمكن لحزب الأصالة والمعاصرة أن يكون حليفا موضوعيا لليسار هو الذي أثبت حتى الآن أنه الأقدر على منازلة الإسلاميين انتخابيا، وأليس التحالف مع العدل والإحسان أخطر على الوطن والديمقراطية من التحالف مع حزب الأصالة والمعاصرة؟.
القضية المطروحة للنقاش لا تحتاج لأجوبة متسرعة، إنها تقتضي تمحيصا دقيقا للوضع السياسي في بعده التاريخي والإقليمي، ولنتذكر أنه في بداية التسعينيات تحالف اليساريون مع حزب الاستقلال المحافظ فأحدثوا تعديلا في ميزان قوى الصراع السياسي لصالح الانفتاح السياسي، وماذا لو كان بإمكانهم اليوم بتحالفهم مع «البام» أن يحدثوا ميزان قوى سياسي جديد يحد من نفوذ وهيمنة التيار المحافظ.
نحن الآن أمام عرضين: الأول طرحه حميد شباط في الندوة التي نظمها عبر صحيفة «المشعل» ومفاده تشكيل كتلة ديمقراطية تجمع العدالة والتنمية، التقدم والاشتراكية، الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي، والعرض الثاني صاغ فكرته إلياس العماري وإدريس لشكر دونه اتفاق مسبق بينهما، ومقتضاه بناء تكتل يساري يسمح بتوضيح الاصطفافات السياسية وخلق قطبية طرفاها تيار محافط أصولي وطني وآخر يساري حداثي تقدمي.
طبعا لدى الكل مؤاخذات على حزب إلياس العماري، لكن الحوار خلق لأجل المكاشفة ولأجل التعاقدات الواضحة، وفي اعتقادي فإن التعاقدات السياسية في مضمار الصراع السياسي بين الحداثة والمحافظة اليوم لا ينبغي أن تقوم على المثاليات بل على التحليل الملموس للواقع الملموس، وكما قال يوما صديقي الأستاذ محمد المريني «علينا أن نخرج رؤوسنا من الواقع لا أن نخرج الواقع من رؤوسنا». وفي كل هذا أنا لا أتبنى لا هذا الطرح ولا ذاك، أنا فقط أفتح نافذة للنقاش.
يونس دافقير