خلف قرار محكمة العدل الأوربية الصادر يوم الخميس 10 دجنبر 2015 والقاضي بإلغاء الاتفاق التجاري حول المنتجات الفلاحية الموقع في 2012 بين المملكة المغربية والاتحاد الأوروبي، ردود فعل متباينة لعل من أبرزها توجه الاتحاد الأوروبي نحو استئناف الحكم واستغراب المغرب لهذا القرار الذي ينتهك اتفاقية تطلبت المصادقة عليها خوض أشواط طويلة من التفاوض العسير بمشاركة كل الأطراف الأوروبية المعنية، وأخيرا رد الفعل الجزائري الذي يريد أن يجعل من هذا القرار نافذة تقود إلى تهديم كل ما توصل المغرب والاتحاد الأوروبي إلى بنائه من علاقات صارت توصف بالنموذجية.
ما تضمنه القرار الجديد للمحكمة اعتبرته الجزائر نصرا لسياستها إذ أعلن المحامي الذي نصبته كمعبر رئيسي عن رأي صنيعتها البوليزاريو أمام المحكمة، بأن القرار تاريخي لأنه يطرح السؤال الجوهري بخصوص الصحراء، غير أن النشوة الجزائرية الآنية بالانتصار ليست وليدة قرار قابل للطعن فيه بقدر ما هي فرصة لتوجيه الرأي العام الداخلي نحو قضايا تلهيه عن قضاياه الجوهرية وفي مقدمتها مستقبل الجزائر في ظل المعطيات المقلقة المتمثلة في تحديد من يمسك عمليا بزمام الحكم ومن سيخلف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي يوصف بأنه يحكم الجزائر من نعشه، وكيف ستواجه الجزائر إشكالية التدهور الاقتصادي والاجتماعي جراء تدني أسعار البترول من حوالي 117 دولار للبرميل إلى أقل من 40 دولار للبرميل...
أما المغرب فإنه لم يتردد في التعبير عن استغرابه لهذا القرار وعن استعداده لمواجهته في ما إذا اضطر إلى ذلك، فهذا القرار الذي يراد منه إرغام دول الاتحاد الأوروبي على الامتناع عن شراء المنتجات الفلاحية الصحراوية المنشأ ما هو في الواقع إلا إحياء لروح المفاوضات العسيرة التي أسفرت عن رفض مقترحات أنصار الأطروحة الجزائرية، إذ من أصل حوالي 13 مقترح لم تقبل الأجهزة الأوروبية المتخصصة إلا بأمر واحد وهو عدم الاعتراف بسيادة المغرب على الأقاليم الصحراوية، ولكنها في نفس الوقت أكدت اعترافها بالتدبير الإداري المغربي لهذه الأقاليم، وعلى هذا الأساس بررت أحقيتها في استيراد المنتجات الفلاحية الصحراوية المنشأ، وربطت هذا الاعتراف بشرط استفادة السكان المحليين من فوائد هذه المبادلات التجارية.
القرار في حد ذاته ليس مهما لأن الاتحاد الأوروبي لا تعوزه الأدلة القاطعة على أن الاتفاق الفلاحي القائم مع المغرب يحترم المنطق القانوني الدولي والأوروبي، ولكن الظرفية التي صدر فيها هي التي تفرض التعامل معه بمنطق الحيطة والحدر، فالجزائر التي خسرت كل شيء على المستوى الداخلي وتعذر عليها حتى إقناع المجتمع الدولي بكونها مؤهلة للانخراط في المنظمة العالمية للتجارة، وبالأحرى أن تحقق التقدم الموعود في علاقات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، تجد ضالتها في التركيز الإعلامي والدبلوماسي على ملفي الصحراء المغربية ووضعيتها الأمنية على الحدود الشرقية والجنوبية، وهي بذلك متشبثة باستغلال كل الفرص المتاحة ولو من باب إثارة ضجة إعلامية لفترة آنية وعابرة، ولكنها في نفس الوقت تعرف أن الأوضاع السياسية بدول الاتحاد الأوروبي عرفت تحولات كبيرة سواء على مستوى الهيئات الحكومية أو على مستوى البرلمان الأوروبي، فكما أنها عبأت أنصارها الأوروبيين طيلة فترة التفاوض بين الاتحاد الأوروبي والمغرب على الشق الفلاحي فإنها لن تدخر اليوم أي جهد في عرقلة التقارب الأوروبي المغربي الذي صار يوصف بالنموذجي.
من حق المتتبعين أن يتساءلوا لماذا أصدرت المحكمة الأوروبية هذا القرار بعد 3 سنوات من تطبيق مقتضيات اتفاقية 2012 الفلاحية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، والجواب له طابعه الشكلي المتمثل في كون المحكمة لها استقلاليتها وقناعاتها وبالتالي فهي جزء لا يتجزأ من الآلية الديمقراطية الأوروبية له ما له وعليه ما عليه، وله كذلك طابعه الخفي والمتمثل في أن المناخ السياسي العام في أوروبا صار يرى في محاصرة الأشخاص والسلع الواردة من الدول الإسلامية سلوكا مسايرا للتوجه العام الذي تجلت مظاهره في اكتساح الأحزاب المتطرفة، اليمينية منها واليسارية، لمواقع ناذرا ما فازت بها، وهذا التوجه كثيرا ما يجد دعما قويا من طرف اللوبيات المحلية التي ترى في الإنتاج الفلاحي المستورد، وخاصة منه المغربي العالي الجودة، منافسا قويا لها.
من الصعب تصور وقوف الاتحاد الأوروبي مكتوف الأيدي أمام قرار يهدد بنسف كل المكاسب التي حققها في تعامله المتميز مع المغرب، فالاتحاد الأوربي له من الآليات والوسائل ما يؤمن له تقديم الأدلة الدامغة للمحكمة المختصة على أن مجموع ما ينتجه المغرب في صحرائه المسترجعة لا يمثل حتى عشر ما أنفق من أجل الرقي بمستوى العيش فيها، وهو يعلم أن قيمة المساعدات التي تُحول لقيادة البوليساريو تمثل أضعاف قيمة مجموع ما ينتج في الصحراء ومع ذلك فإن الاستثمارات التي شملت مختلف الميادين حولت مدنا مثل العيون والداخلة إلى مناطق حضرية صارت تشكل حلما بالنسبة للمحتجزين في مخيمات تندوف، بل إنها صارت تضاهي حتى العديد من مدن الجزائر بما فيها العاصمة من حيث جودة البنيات التحتية ونوعية السكن ووفرة المواد الغذائية وكلفة المعيشة، هذا دون الحديث عن المشاريع التي أشرف العاهل المغربي على توقيعها والتي حولت المنطقة إلى ورش كبير يحقق الاندماج الحقيقي للمغرب في محيطه الإفريقي.
إن المغرب الذي انهمك على معالجة الملفات الكبرى التي ترهن حاضره ومستقبله بما في ذلك تحقيق الأمن الغذائي وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، استطاع بفضل استقراره السياسي وتنوع موارده الاقتصادية وانفتاحه على الأسواق العالمية أن ينسج علاقات متينة مع عدة أطراف وأن يستقطب الرأسمال الأجنبي وأن يتحول إلى شريك لا مجال للاستغناء عنه وخاصة في معالجة الملفات التي اكتست طابعا عالميا مثل محاربة الإرهاب ومكافحة المخدرات والتهريب، وكل هذه الملفات تحققت بفضل إدماج مكونات المجتمع المدني في صياغة مشاريع القوانين وفي دعم المفاوضين المغاربة بالحجج والأدلة التي تقوي قدراتهم على إقناع الأوروبيين وغيرهم بالتوصل إلى اتفاق منصف.
إن المهنيين المغاربة واثقين من أن قرار المحكمة الأوروبية الجديد يضر بمصالح الاتحاد الأوروبي أكثر مما يضر بالمصالح التجارية المغربية ، ولكنهم يعرفون في نفس الوقت بأن القطاع الفلاحي المغربي كان وسيظل مستهدفا من طرف كل من يريد النيل من المغرب، ورغم أن المناورة الجزائرية الجديدة تكاد تكون عديمة الوقع على الخيار الاستراتيجي الذي انخرط فيه كل من المغرب والاتحاد الأوروبي إلا أنها قد تنفع المغرب أكثر مما تضره، فبقدر ما تعكس ضعف مواكبة الحكومة المغربية لتطورات ملف القضية الوطنية في مختلف الهيئات التي تنشط فيها الآلية الديبلوماسية الجزائرية، فإنها تحفز المغرب على المزيد من تحصين نفسه لمواجهة المفاجآت، وما دام الأمر يتعلق هنا بالصادرات الفلاحية المغربية فمن المفيد التذكير بالموقف الواضح الذي أعلنه جلالة الملك من العيون بمناسبة الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء، وخاصة ما يرتبط منه برفض التعامل مع من يسعى إلى النيل من سيادة المغرب وكذلك توجه المغرب الراسخ نحو إقامة حكم ذاتي يضمن لجميع سكان الصحراء إمكانية تدبير شؤونهم الجهوية في ظل الديمقراطية وسيادة القانون.
الخيارات المغربية الكبرى واضحة، وحتى التحديات والمخاطر والصعوبات واضحة، ولم يعد ينقص إلا المزيد من تظافر الجهود لتقوية التماسك الاجتماعي والمزيد من التنسيق مع المصدرين المغاربة لمعالجة القضايا المطروحة والتي قد يكون توفير أسطول بحري يؤمن نقل الإنتاج الفلاحي المغربي عبر الحاويات إجراء مستعجلا يلبي الحاجيات الملحة ويزيد من قدرة المغرب على الصمود أمام مختلف المناورات والتحديات، وإلى أن يتضح القرار الأوروبي النهائي فإن المغرب ليس أمامه إلا أن يعجل بتنفيذ مشاريعه الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية، أما الاتحاد الأوربي فلعله في غنى عن إلحاق الضرر بمن يعترف له بالتعاون المثمر والنموذجي، ومن كان يعتقد بأن منطق المساومة بملف الصحراء من أجل حرمان المغرب من حقوقه العادلة في علاقاته الاقتصادية والتجارية لايزال قوي المفعول، فما عليه إلا أن يراجع أوراقه قبل فوات الأوان، وإن غذا لناظره قريب.
عبد القادر الحيمر