(2)
إذا تحدثت عن الصحراء،فسيخرج الشعب الجزائري إلى الشوارع:
أفضت الحلقة الأولى من الموضوع إلى هذا التصريح المفاجأة، الذي باغت الساحتين السياسيتين الجزائرية والمغربية- بتفاوت طبعا- إن لم يكن حتى الدولية،باعتبار ملف الصحراء الذي اتخذته الجزائر مطية،لاتركب سواها إلى كل المحافل ذات الاهتمام. ومن المفارقات أن حضورها باهت ، حتى في محافل البترول،رغم كونه عصب الحياة بالنسبة لها؛وقد خسر هذا العصب ،إلى اليوم،نصف خلاياه.
إن النظام في الجزائر لم يتخرج بعد من مدرسة الحرب الباردة،ولم يدرك ،رغم تصاعد حجم الخسارة،أن طاقة الايدولوجيا لن تفيد الشعب في شيء من كرامته ،غذائه،تعليمه وصحته.
إذا قالت حذام فصدقوها *** إن القول ما قالت حذام
حينما هاجم عمار السعداني ،الأمين العام لجبهة التحرير،الجنرال توفيق قائد دائرة الاستعلام والأمن ،ذهلت الساحة السياسية ،والعسكرية،في الجزائر؛أما الشعب فوقف مرعوبا منتظرا صراع الفيلة.توقع الملاحظون صواعق من السماء تحرق هذا الذي تطاول على "رب الجزائر". السعداني نفسه ختم هجومه بالقول:إذا أصابني مكروه فمن توفيق.
فعلا صعقت الصواعق ،لكن المحترق لم يكن شخصا آخر غير الجنرال ،ومن والاه.أما السعداني "أخ العروس" فقد جوزي – عقب إعادة انتخابه أمينا عاما للجبهة- بتهنئة عسكرية وازنة،أثارت جدلا كبيرا وقتها؛اعتبارا لصدورها عن قائد الأركان الجنرال كايد صالح. هكذا "أراد الله" كما كان الصليبيون يرددون في حروبهم مع المسلمين: المؤسسة العسكرية تعلن جهارا عن اصطفاف سياسي؛غير مبالية بتقاليد التكتم ،والاشتغال في الظل ؛وغير مقدرة لحجم الإحباط الذي أناخ بكلكله – جراء التهنئة -على الجناح المعارض داخل الجبهة ،إياها؛وعلى باقي الأحزاب الجزائرية ،وخصوصا المعارضة.
لم يعد أحد، في الجزائر، يجادل في كون عمار السعداني ،يصدر عن دور محدد، أسند له من طرف الرئاسة،ومحيطها العسكري والسياسي والعائلي النافذ.
يكاد لا يفوتني ما يصدر ،بخصوص صحرائنا،عن رجال الدولة الجزائريين،وباقي السياسيين؛تتبعت بصفة خاصة حملات المرشحين في الرئاسيات الأخيرة،عساني أقف على مرشح يقول للجزائريين – بكل شجاعة-أن له موقفا خاصا من قضية الصحراء؛يختلف عن الموقف الرسمي،الذي غدا قرآنا يتلى مع القرآن.
خاب ظني ،حتى علي بنفليس الذي بدا لي وازنا في تكوينه ، خبرته،وفي حملته؛ لم يغازل بنت صحراءَ،بشعر من نظمه؛خارج "ديوان الحماسة" الذي يحفظه الجنرالات ،ويمتحنون الناس به؛ولو رؤساء للدولة.(لعل هذا مما أسقط الشاذلي بن جديد،وقتل المرحوم بوضياف).
فمن أين لأمين عام جبهة التحرير ،الحاكمة في الجزائر- ولعله أول أمين يتوصل بتهنئة عسكرية سامية،و بدلالات عميقة –أن يكون له رأي مخالف في قضية الصحراء؛إلى الحد الذي يقنع به الشعب الجزائري ،فيخرج إلى الشوارع ثائرا محتجا؟
لايخفى أن هذا التصريح يتضمن- تلميحا- اصطفافا من السعداني الى جانب الشعب الجزائري الذي أربكته إجراءات السبع العجاف،التي ستأتي على الأسود والأصفر ؛هو الذي لم يفكر إلا في السبع السمان.
شعب لم يظهر ،أبدا، حماسا لدور دولته المناوئ لحق مغربي ثابت؛ ومن هذا الشعب حتى سكان تندوف الأصليين ،الذين يجاهرون بمغربيتهم . ومنه أيضا ، عروش القبائل (الجرجورة والشاوية) إضافة الى المزابيين ؛وكلهم مقبلون على مرحلة سيلعب فيها المغرب دورا كبيرا؛إن تاهت خلافة بوتفليقة؛وواصلت التشبث بأساطير الأولين .
في أوضاع اقتصادية ،مثل هذه،لا شيء يمكن أن يخرج الشعب الجزائري إلى الشوارع غير المال ؛مسروقا ومبذرا.
فكأن السعداني يومئ إلى الفاتورة الثقيلة المؤداة من المال العام – رغم بطالة وفقر نسبة مهمة من المواطنين- لخدمة قضية مات كل مؤسسيها.
وراء فتح العلبة السوداء جهة ما:
كما في حوادث الطائرات لا يقرب العلبة السوداء كل من هب ودب؛لأنها تتضمن أسرار الركام حين كان طائرة تمخر عباب السماء.
الجزائر تقف اليوم على متلاشيات سياستها المناوئة لمغربية الصحراء؛ ولا شيء أجلى وأفضح لها من علبتها السوداء ،التي توارثها سكان قصر المرادية ، دون أن يقفوا على شفرتها الحقيقية؛إذ لم يكن لهم أن يفتحوها. فهل يقوى السعداني على ما أعجز ورثة هواري بومدين؟
فمن وراء تصريحاته؟ ومن أوعز له بالتراجع عنها ؛حينما احتدم النقاش بخصوصها؟ ومن يحمي لويزة حنون ،أمينة حزب العمال ،حينما تتحدث عن صحراننا وكأنها وزيرتنا امباركة بوعيدة؟
أحد المواقع الانفصالية اعتبر السعداني قد ذبح الشعب الصحراوي بتصريحه؛وأورد تساؤلا ساخرا لمسؤول كبير في جبهة بوليزاريو يقول فيه: هل سيكون مصيرنا مثل مصير طالبان؟
على مستوى الرئا سة الجزائرية ،لم يسجل السيسموغراف أي شيء، يمكن أن يقلق السعداني النائم في العسل ،رغم هول الزلزال. كل ما هنالك أن الرئيس ،وبسرعة كرسي متحرك،وصمت أبي الهول ،استقبل عبد العزيز الآخر ،المريض بدوره.(لا نكاية في أحد لمرض،وشافى الله الجميع)
قارنوا مع غضب كبار المؤسسة العسكرية،وعدد من السياسيين ؛جراء محاكمة الجنرال حسان،دون أدنى تجاوب من الرئيس ؛رغم مناشدته من طرف الجنرال خالد نزار ،ليضع حدا لمحاكمة نعتها بالإجرامية.
المرشح الوجدي سعيد بوتفليقة:
سأغض الطرف عن أسماء وازنة يقترحها المحللون لخلافة بوتفليقة: أويحي،حمروش،سلال،بنفليس، أحمد بن بيتور؛وسأتوقف ،مثل بعضهم، عند الأخ الصغير سعيد بوتفليقة. لا أحد يستطيع أن ينكر أنه الرئيس الفعلي للجزائر،دون أن تكون له أدنى صفة رسمية،عدا كونه بوتفليقة الذي يمشي على قدميه ويتحدث بلسانه.
بوتفليقة الذي ولد في مدينة وجدة المغربية سنة1957؛وهي الفترة التي غادر فيها الشاب عبد العزيز المدينة ليلتحق بجبهة التحرير ،وعمره ثمانية عشر ربيعا. بوتفليقة الذي يوجد قبر والده،وأخته، بمقبرة سيدي المختار بنفس المدينة. ولو نفذ الرئيس وصية والدته لكانت الثالثة،بالمقبرة إياها..
يبدو من هذا أن الأخ الكبير –وككل الإخوة- كان يأخذ بيدي أخيه المولود الصغير ،وهو يعلمه السير بأزقة المدينة العتيقة.
إذا انتقلنا من "حوش" العائلة ،بوجدة، الى الجماعة السياسية بالجزائر،فسنقف على أن سعيد بوتفليقة هو آخر الأحياء من جماعة وجدة،التي حكمت الجزائر ،بدءا من الراحل أحمد بنبلة.(بعد رحيل عبد العزيز طبعا).
هل لكل هذا دلالة سياسية في أمر الخلافة؟
هل يستعيد عبد العزيز،الداهية، دروس الحبو التي قدمها للمولود سعيد ،ليجعلها- اليوم- دروسا في السياسة ؛حتى لا يجلس على عرش الجزائر غير آل بوتفليقة؟
ألا تنسج الجزائر على منوال المغرب في كل شيء؟ فما المانع من أن ينسج بوتفليقة على هذا المنوال حتى في النظام الملكي؟ لا يجب أن نغفل أن الشاب عبد العزيز بوتفليقة كان مناضلا في حزب الاستقلال بوجدة ،وظل يعتبر نفسه وجديا مغربيا ،من رعايا صاحب الجلالة؛الى أن حدثت طوارئ دفعت به-مكرها ربما- إلى جبهة التحرير.ومن أشهر من بكى فراقه المباغت حبيبته الممرضة بمستشفى "موريس لوسطو"(الفرابي حاليا).
نتوقف عن هذا الشرود العائلي –وهو دال على كل حال - لنعاود البحث في حظوظ هذا المرشح :
بإحالة الجنرال توفيق على التقاعد،ووضع دائرة الاستعلام والأمن تحت قيادة كايد صالح؛الشديد الولاء لآل بوتفليقة،يكون الرئيس قد أزاح عقبة كأداء،سبق أن اعترضت حتى على ترشحه للولاية الرابعة.
من هو سعيد الحظ هذا الذي أناخ له بوتفليقة هرم المخابرات الجزائرية؟ إن لم يكن الأخ سعيد نفسه فلا أحد يمكن أن ينال كل هذه الخدمة من رئيس في مرض الموت ،لم يعد يتوجس خيفة من أي أحد.
يعتبر العسكريون والمدنيون أن محاكمة الجنرال حسان – دون جريرة مؤكدة-والقضاء بسجنه خمس سنوات لغزا رئاسيا . هو فعلا لغز ،لكن بربطه بمشروع الخلافة العائلية ،والتخوف على الأخ من جنرال مخابراتي ،شديد الولاء للجنرال توفيق تنحل عقدته؛ويغدو ترتيبا محكما حتى لاتتعثر قدما الصبي في حجر ولا جبل.
ما دخل المغرب في كل هذا؟
يبدو لي أن المغرب ،هنا، حاضر بحضور صحرائه؛التي أوحي للسعداني ،بأن يهيئ الساحة السياسية في الجزائر لفتح علبتها السوداء. إنها مرحلة مفصلية، تحتاج إلى دهاء لا يعوز عبد العزيز بوتفليقة.
لكن ليس لسواد عيوننا ،هنا في المغرب ؛إذ الرئيس يبحث عن شرعية ما لأخيه سعيد.
رغم أن سعيد هو الآمر والناهي في الجزائر ،حاليا،فلا شرعية له،ثورية أو سياسية؛فهو أخ الرئيس وكفى.
وهذا لا يكفي ؛ومن هنا البحث عن الإسناد الخارجي؛يضاف الى الإسناد الداخلي ،المتمثل حاليا في إخوان الصفاء وخلان الوفاء،من العسكريين والمدنيين.والمتمثل أيضا في رجال المال والأعمال.
على رأس دول الإسناد الخارجي- حسب تقديري- المملكة المغربية ،التي إن أخلي – أمميا- بينها وبين تنمية صحرائها المسترجعة،وفق بنود الحكم الذاتي؛ فلا فائدة لها في معاداة لا عبد العزيز بوتفليقة ولا سعيد.
إن الوطن غفور رحيم ؛حتى بالنسبة لآل بوتفليقة.
وبوتفليقة يدرك حجم وثقل العلاقات المغربية،عبر القوى العظمى والصغرى؛كما يدرك رهانات المغرب الاقتصادية في القارة الإفريقية ؛مما سيشكل مجالا واسعا للعمل والتعاون ،يخرج الجزائر من عزلتها.
ويدرك أيضا أن الأخطار المحدقة بالمنطقة المغاربية،وبصفة خاصة الجزائر،لا يقوى على صدها غير حلف مغربي جزائري؛قام على الثقة بين الجارين.لعل بوتفليقة يخطط لهذه الثقة بين أخيه وملك المغرب؛لأن برقياته طافحة بأماني عجز عن تحقيقها في واقعه.
ولا يمكن أن تفوت بوتفليقة مفارقة كبرى،يكاد لا ينتبه إليها أحد:
سبق أن تحدتت عن العقيدة العسكرية المغربية ،واعتبرتها بنت الصحراء.من حرب الرمال الى امغالا.
وإذا عمقنا النظر في نمو المغرب وازدهاره ،وأوراش إعادة تهيئة المدن ؛إضافة إلى الطموح الاقتصادي العابر للقارة ؛دون أن نغفل ما تحقق على مستوى الحقوق والحريات –رغم العثرات،ولا يكبو إلا من يسير- وما ينفق على التسليح ،وصولا إلى اعتبار المغرب قوة عسكرية كبرى؛إذا عمقنا النظر في هذا وغيره فسيحاصرنا سؤال:كيف؟ من أين هذه الرافعة،ونحن بدون بترول ولا غاز؟
إنها ،بنسبة مهمة،من شرط التعبئة القصوى الذي فرضته علينا الجزائر،بتوقع الشر منها،وهي بثراء كبير.
رب ضارة نافعة؛وفي هذه نحمد للجزائر عداءها.
وعساها تنتبه إلى أن إضعاف المغرب يتم بمصادقته؛حتى ترتخي عضلاته.
مهما تكن خلافة بوتفليقة،فسيكون المغرب حاضرا فيها ؛بشكل من الأشكال.
وإذا سارت الأمور في اتجاه بناء علاقات جديدة مع المغرب-كما أتوقع-فسيكون بوتفليقة المريض صحح أخطاء بوتفليقة ،وهو في كامل زهوه وعنفوانه ،وأنقذ الشعوب المغاربية من أوضاع كارية تحيط بها.
رمضان مصباح الإدريسي,
http://sidizekri.blogvie.com