منذ بضعة أيام، نشر الباحث والكاتب الفرنسي “أوليفي روا” مقالا رائعا على جريدة لوموند، يعطي فيه قراءة مميزة لأحداث باريس الأخيرة. بالنسبة للباحث المعروف بتحليلاته الرصينة العميقة، فإن الأمر لا يتعلق بكون الإسلام أصبح متطرفا، بل بكون التطرف أصبح إسلاميا (Il ne s’agit pas d’une radicalisation de l’islam mais d’une islamisation de la radicalité). بشكل آخر، فإن الأمر لا يتعلق بكون مسلمي فرنسا يختارون التطرف في السنوات الأخيرة كما تحاول أن تقنعنا بذلك بعض القراءات (ويقدم الباحث تفسيرا عميقا للموضوع) بقدر ما يتعلق بشباب متطرف يعيش على الهامش وتوفر له داعش إمكانية ممارسة العنف تحت مسمى الدين.
يذكرنا الباحث بأن أغلب مرتكبي الأعمال الإرهابية الأخيرة لم يُعرف لهم ماض متدين (اللهم في الأسابيع القليلة التي تسبق عملياتهم الإجرامية). كان يمكن بالنسبة لهؤلاء الشباب اختيار أي توجه آخر يوفر لهم إمكانية القتل بدم بارد، لكن الاختيار السهل المتاح، والذي يوفر لهم إمكانية الترويع، كان هو داعش. لا يمكن مثلا (كما يختم “أوليفي روا” مقاله) لهؤلاء الشباب أن ينضموا للتنظيمات اليسارية المتطرفة (التي مارست العنف في فترة من تاريخها) لأن هذا يتطلب منهم القراءة والتثقيف، وهذا ما لا يفعله شباب داعش وما ليسوا بالقادرين عليه. لذلك يكون التطرف الإسلامي هو الطريق الأسهل للقتل والترويع بدم بارد. هم إذن متطرفون تأسلموا وليسوا بالضرورة مسلمين تطرفوا.
تحليل “أوليفي روا” عميق يستحق قراءة متأنية… لكننا عندما ننهيه ونتطلع حولنا، نصاب بهول الواقع … نصدم لبشاعة بعض القراءات المحيطة بنا.
غداة أحداث باريس، كتب مدير نشر يومية محترمة افتتاحية يبرر من خلالها ما حدث في باريس ويربطه بمواقف فرنسا السياسية (وكأن القتل يمكن أن يكون دفاعا عن موقف سياسي).
ومنذ بضعة أيام، كتب مدير نشر آخر على صفحته الفايسبوكية يبرر على طريقته، وببعض الشماتة، ما حدث في باريس. البوست كان يقول بالحرف: « خطيب الجمعة: ’’إن ما يقع في بلاد المسلمين من قتل وفتك أصله العالم الغربي المنافق والذي يبحث فقط عن مصالحه ولو بالنار والدمار … وهاهم اليوم يتجرعون نفس السم الذي أسكبوه في المنطقة’’. كلام قوي ….».
هنا ينتهي البوست… وهنا تبدأ الصدمة.
ما يحدث في العالم الإسلامي من قتل وفتك أصله العالم الغربي طبعا. ليس لسياسات هذه البلدان الداخلية ولانعدام الديمقراطية وللاستبداد والفساد أي دخل.
أتفهم أن يكون لبعض صغار العقل فضاء ذهني خصب لاستقبال وإنعاش نظرية المؤامرة. لكني لا أفهم أن تطل علينا هذه النظرية من بعض العقول التي يفترض أنها نيّرة. من المؤكد أن للسياسات الخارجية للدول العظمى دخل في ما يحدث في مجموعة من البلدان، لكننا يجب أن نتحلى بشجاعة الاعتراف بالخلل الداخلي المرتبط أساسا بالاستبداد والدكتاتورية والتجهيل والتفقير والاستغلال السياسي الغبي للدين وهلم جرا. لنصرخ بأعلى صوتنا: الخلل فينا. وحتى حين تساهم القوى الخارجية في الإساءة إلينا، فلأن الخلل فينا. لأن مناعتنا السياسية والاجتماعية والتعليمية هشة. وكما تقول الأغنية الشبابية السورية الجميلة (إله الثورة): “تعو نْحاول نِزرع الفتنة بيناتهم لَنْكْتشف أن عقولنا بسّ الخِصبة”.
هذا من جهة… من جهة أخرى، على فرض المسؤولية الحصرية لهذا العالم الغربي… على فرض أنه وحده المسؤول… حين نعتبر دماء أبرياء قتلوا لمجرد أنهم كانوا في المكان الخطأ وفي الزمان الخطأ (بينهم مسلمون للتذكير)، هي انتقام لدماء أبرياء آخرين يسقطون في بلداننا… حين نفعل ذلك، ألسنا نثمن مواقف داعش ومن شابهها؟ ألسنا بنفس مستوى العنف والدموية ما دمنا نجد في تبرير قتل الأبرياء انتقاما من حكامهم شجاعة تستحق أن نصفق لها؟ ألسنا في صف القتل، نُنَظِّر له ولا يفصلنا عن الفاعلين إلا السلاح والانتقال للفعل؟
كيف يمكن أن نكون “صناع رأي” أو على الأقل مساهمين في صناعة الرأي وأن نرسخ فكرا مبنيا على العنف والقصاص والعين بالعين ونظرية المؤامرة؟ كيف يمكن أن نكون صناع رأي وأن نسترخص حياة الضحايا في بلد ما لمجرد أن سياسته الخارجية لا تروقنا؟ كيف يمكن أن نكون صناع رأي ونرفض تشريح عاهاتنا ونقذ نواقصنا، نعلق كل إخفاقاتنا على الآخر، ونفرح للقتل البشع وبدم بارد لأرواح بريئة لكي يذوق هؤلاء من سم نتجرعه؟
لن أحاول الفهم… لأن أرواح كل الضحايا في باريس وبيروت ومالي وتونس وغيرها ذهبت عبثا من طرف مجرمين لا يدافعون عن أبرياء سوريا والعراق واليمن وفلسطين (لنتذكر فقط ما فعلت داعش بالعراقيين والسوريين) بقدر ما يدافعون عن حقهم في السلطة وفي التوسع الجغرافي والسياسي عبر الترويع والقتل. شكرا لكل من يعتبر هؤلاء القتلة شجعانا…
سناء العاجي