قرّر العاهل المغربي، محمد السادس، في خطوة غير مسبوقة، امتلاك زمام الأمور في الصحراء، والتحضير العملي لمشروع الحكم الذاتي، بالإعلان عن حزمة من المشاريع الضخمة، الكفيلة بتفجير ثورة اقتصادية واجتماعية في الأقاليم الجنوبية للمغرب. تضمَّن هذه المشاريع خطابٌ ملكي، بمناسبة الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء التي نظمت في نوفمبر/تشرين ثاني 1975، وشارك فيها 350 ألف مغربية ومغربي، وكانت من أفكار الملك الراحل الحسن الثاني التي استرجع بفضلها المغرب الأقاليم الجنوبية، بعد أن استعمرتها إسبانيا عقوداً، وتعتبرها جبهة البوليساريو مناطق يحتلها المغرب.
الجديد في استراتيجية الملك محمد السادس، بعد اختناق الحلول الدبلوماسية، وتعثر المسار الأممي، هو اعتماد نظام تدبير سياسي وإداري وترابي، فيما يشبه انتقالا شاملاً، بهدف تحويل هذه الأقاليم إلى أقطاب اقتصادية مدرّة للثروة، وضامنة للشغل ومستقرة على كل المستويات، وتتمتع بالجاذبية الاستثمارية والسياحية، عبر تبني نموذج تنموي جديد ومندمج، يقطع مع اقتصاد الريع والامتيازات، وكفيل بجعل الصحراء المغربية مركزاً للتبادل، ومحوراً للتواصل مع الدول الإفريقية جنوب الصحراء. ولهذا سيخصص المغرب ميزانية ضخمة، تقدر بـ 77 مليار درهم، لتحقيق هذه الثورة التنموية التي تندرج في إطار تنزيل نظام الجهوية الموسعة، أو المتقدمة التي شرع في تطبيقها في 12 جهة مباشرة، بعد الانتهاء من مسلسل الانتخابات الجماعية والجهوية التي نظمت في سبتمبر/أيلول 2015، كما تندرج في سياق بلورة استراتيجية استباقية، من دون الارتهان للمسار الأممي الذي يخشى المغرب أن ينحرف ويزيغ عن السكة، لسبب من الأسباب. وقد سبق للأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أن أوضح، في بيان رسمي، أن مقترحات كل من المغرب وجبهة البوليساريو لم تفتح الطريق أمام مفاوضات حقيقية، ودعا الطرفين إلى الشروع فيها من دون شروط مسبقة، غير أن المغرب، واستجابة لنداء المجموعة الدولية بتقديم مقترحات، للخروج من النفق المسدود الذي وصلت إليه القضية، اقترح منذ عام 2007 مشروع حكم ذاتي، تعتبره السلطات الرسمية وكل الفاعلين ومختلف مكونات المجتمع المغربي، بأنه مشروع شجاع وتاريخي، وغير مسبوق في إفريقيا، وقابلاً للتحقق على أرض الواقع، لكونه يمكّن السكان الصحراويين من صلاحيات واسعة للتدبير، مع برلمان وحكومة مستقلة عن الرباط، في ظل السيادة المغربية. وقد وصفت القوى الأساسية في الأمم المتحدة بأنها جدية وذات مصداقية، وهي أقصى ما يمكن للمغرب أن يقدمه، كما ورد على لسان الملك محمد السادس في الخطاب نفسه، والذي اعتبر أن المغرب أعطى كل شيء، ولن يقدم بتاتاً أي تنازلات، من منطلق أن المغرب لن يقبل أي مغامرة، غير محسوبة العواقب، ستكون لها تداعيات خطيرة، بما في ذلك تقسيم البلاد، أو أي اقتراح من شأنه نسف الدينامية الإيجابية التي أطلقتها مبادرة الحكم الذاتي. وهذه رسالة موجهة أساساً إلى الرجل الأول في الأمم المتحدة، حيث يعتقد المغاربة، وبكل قوة، أن المبعوث الأممي الخاص إلى الصحراء، كريستوفر روس، بصدد التحضير لطرح تصور جديد لإنهاء النزاع. ويخشى المغرب أن تعمد الأمم المتحدة إلى التلويح بمقترح أقل من الانفصال، وأكبر من الحكم الذاتي، وهو ما يتمثل في النموذج الكونفدرالي الذي يقوم على اتحاد بين دول، والذي يتجاوز النموذج الفيدرالي، كما هو معمول به في سويسرا.
دفع هذا التحول الجوهري في التعامل مع الأمم المتحدة وزير الخارجية المغربي، إلى القول إن السفير روس غير مرغوب به الصحراء، وعندما يأتي إلى المغرب، فللقاء المسؤولين المغاربة، ما يعني أن أي لقاء ينبغي أن يكون في الرباط عاصمة المملكة. ولم تتردد الأمم المتحدة في الرد على المغرب، حيث شدّدت على أن من حق روس أن يزور الصحراء متى شاء، الأمر الذي يفسر استمرار لعبة شد الحبل بين الطرفين. ويرجع المراقبون الامتعاض الرسمي المغربي إلى عدم نزاهة الوساطة الأممية وجديتها في التعاطي مع مقترحات المغرب. وفي المقابل، وقوعها في فخ ضغوط الدبلوماسية الجزائرية، من خلال السعي الحثيث إلى الزج بملف الصحراء في مشاريع ومقترحات تضرب في الصميم الوحدة الترابية للمغرب.
وتزامن التعبير عن هذا الاستياء تجاه الأمم المتحدة مع ردود أفعال جزائرية رسمية، كما وردت على لسان وزير الخارجية، رمطان لعمامرة، الذي ذهب بعيداً في أقواله، عندما اعتبر ما وصفها التصريحات غير الملائمة الصادرة عن ملك المغرب تجاه الجزائر، بسبب دعمها جبهة البوليساريو، لها وقع المراهنة على ما هو أسوأ. واصفاً المسيرة الخضراء بالخديعة التي أسفرت عن رهن المصير المشترك للشعوب المغاربية، من خلال توسع إقليمي على مر أربعين سنة، حسب قول لعمامرة، علما أن المغرب، رسمياً وشعبياً وحزبيا، ينظر إلى فكرة المسيرة كونها إحدى الملاحم التاريخية النادرة التي قوّت تماسك الجبهة الداخلية، وحوّلت ملف الصحراء إلى قضية إجماع وطني.
ولمح لعمامرة إلى أنه سيكون هناك مزيد من التفكك والتمزق بين الإخوة. هذه الواقعية المؤلمة والجارحة التي تطبع الخطاب السياسي والدبلوماسي الجزائري، يفهمها المغاربة من منطلق أن البوليساريو هي أيضا رأسمال نفيس في مستوى الغاز والنفط. لذلك، تحرص السلطات الجزائرية على تغذية مشاعر العداء، وشن حروب على أكثر من جبهة، حيث لا تتردد في تعبئة قدراتها وعائداتها النفطية لمعاكسة المغرب، والبحث بكل الوسائل لإجهاض مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها لإيجاد تسوية سلمية وواقعية لنزاع الصحراء. بل أكثر من ذلك، تسعى الجزائر الرسمية، وفي مقدمتها مؤسسة الجيش، إلى إحداث مشكلات واضطرابات داخل المغرب، باستغلال بعض المدافعين عن أطروحة الانفصال الذين يبتزون المغرب، من خلال التوظيف السياسي والإعلامي ورقة حقوق الإنسان. ولهذا تساءل الملك محمد السادس، في خطابه الذي بث مباشرة من العيون، نظراً لرمزية المكان ودلالة التوقيت: لماذا لم تقم الجزائر بأي شيء، من أجل تحسين أوضاع سكان تندوف الذين لا يتجاوز عددهم 40 ألفا على أقصى تقدير؟
ولماذا تقبل الجزائر التي صرفت المليارات في حربها العسكرية والدبلوماسية ضد المغرب، بترك ساكنة تندوف في هذه الوضعية المأساوية واللاإنسانية؟ ليخلص إلى أن التاريخ سيحكم على الذين جعلوا من أبناء الصحراء الأحرار متسولين للمساعدات الإنسانية، كما سيسجل عنهم، في إشارة إلى حكام الجزائر، أنهم استغلوا مأساة مجموعة من نساء الصحراء وأطفالها، وحولوهم إلى غنيمة حرب، ورصيد للاتجار اللامشروع ووسيلة للصراع الدبلوماسي.
عبد الصمد بن شريف.