من المؤكد أن الزيارة التي بدأها صاحب الجلالة الملك محمد السادس منذ سادس نونبر الجاري لمدينة العيون، هي زيارة كل الآمال وكل الانتظارات، بالنظر لدلالاتها العميقة وبعدها التاريخي الواعد إلى حد كبير.
فهذه الزيارة التاريخية، ولكونها تتزامن مع الذكرى ال40 لانطلاق المسيرة الخضراء، جاءت في مرحلة من النضج، شعارها القطيعة مع الأساليب المعتمدة في التعامل مع شؤون الصحراء، والتوجه نحو المستقبل، مرحلة تجسدت من خلال خطاب ملكي قوي وواضح وجهه جلالة الملك للأمة من العيون والتي تحمل في طياتها دلالات خاصة.
وبعيدا عن مجرد احتفال عابر، فإن تخليد الذكرى ال40 لهذه الملحمة، الذي أراد له جلالة الملك أن يشكل “مرحلة فاصلة في تاريخ استكمال الوحدة الترابية للمملكة”، يمثل فرصة لتفعيل “قطيعة حقيقية مع الأساليب المعتمدة في التعامل مع شؤون الصحراء”، حسب منطوق الخطاب الملكي السامي.
وقد كانت اللهجة واضحة وصارمة منذ البدء: “فالمغرب يرفض أي مغامرة، غير محسوبة العواقب، ستكون لها تداعيات خطيرة، أو أي اقتراح فارغ ودون جدوى، سوى محاولة نسف الدينامية الإيجابية، التي أطلقتها مبادرة الحكم الذاتي”، كما شدد على ذلك جلالة الملك، مؤكدا، بما لا يترك مجالا للمزيد من الوضوح، أنه “مخطئ من ينتظر من المغرب، أن يقدم أي تنازل آخر. لأن المغرب أعطى كل شيء . أعطى من أرواح أبنائه، دفاعا عن الصحراء”.
أكثر من ذلك، فإن المغرب، الذي يرفض إطلاق شعارات فارغة أو بيع الأوهام، قد مر للسرعة القصوى في تنزيل مشروع الجهوية المتقدمة التي أضحت اليوم “حقيقة على أرض الواقع ، بمؤسساتها واختصاصاتها”، ومن هنا دلالات الاحتفال بالذكرى ال40 للمسيرة الخضراء، والزيارة الملكية والخطاب الملكي بالمناسبة.
ولم يقف المغرب، القوي بعدالة قضيته والوفي لنهجه القائم على احترام التزاماته والفخور بمكتسباته التي تحققت منذ استرجاعه أقاليمه الجنوبية، عند هذا الحد. فغداة الخطاب الملكي، ترأس جلالة الملك، بالعيون دائما، حفل إطلاق النموذج الجديد لتنمية الأقاليم الجنوبية (2016/ 2027)، باستثمارات بلغت 77 مليار درهم لإنجاز أزيد من 200 مشروع ينتظر أن توفر 120 ألف منصب شغل جديد.
ودون الخوض في أهمية الاستثمارات التي تم إطلاقها في كافة قطاعات الأنشطة، يجدر الوقوف عند أربعة مشاريع مهيكلة وذات أهمية استراتيجية، لن تساهم فقط في تعزيز ربط الأقاليم الجنوبية بشمال المملكة، بل ستجعل من هذه الأقاليم قاعدة اقتصادية وملتقى بين المغرب العربي وإفريقيا وبين إفريقيا وأوروبا.
وتكفي الإشارة هنا إلى إنجاز طريق سريع بين تيزنيت والداخلة، مرورا بالعيون (5ر8 مليار درهم)، وميناء الداخلة الأطلسي (6 ملايير درهم)، وربط الداخلة بالشبكة الكهربائية الوطنية (7ر1 مليار درهم) وتعزيز وتوسيع نطاق تغطية الهاتف النقال (ج1/ج2/ج3) على مستوى الجهات الثلاث لتحسين الجاذبية الاقتصادية، ومواكبة برامج الاستثمار وتقليص الفجوة الرقمية.
ولعل هذه المشاريع تعد بمسيرة خضراء جديدة، مسيرة تعزيز المكتسبات، والمشاريع المهيكلة التي تخلق الثروة وتوفر مناصب الشغل. فالواقع الذي أضحت عليه الأقاليم الجنوبية، والذي يبعث على الأمل والفخر، يناقض، للذكرى والتذكير، واقع الخوف والبؤس الذي دبره سجانو تندوف وأسيادهم في الجزائر في مخيمات لحمادة، حيث جعلوا من أطفال جديرين بالعيش في صحرائهم المغربية، مجرد رهائن يتسولون المساعدات الإنسانية.
وفي انتظار تخلصهم من عمى الألوان أو قصر النظر الذي يصيبهم ويمنعهم من إدراك حجم الهوة التي تزداد اتساعا بينهم وحولهم، لا بأس من تذكيرهم بحقيقة مرة: التاريخ، مثل الوادي، يبحث دائما عن مجراه الطبيعي. حقيقة للتأمل!
و م ع