اعتبر أساتذة جامعيون، وأكاديميون مغاربة، أن الملك محمد السادس، "وضع النقاط مرة أخرى على الحروف"، في الخطاب الذي وجهه مساء يوم الجمعة من مدينة العيون، بعد أن أكد العاهل المغربي أن المملكة ماضية في برامجها التنموية بالمناطق الصحراوية، وأنها لا تعير أي اهتمام لكل الحملات المغرضة، التي تحاول أن تستغل، في غياب أي مشروع سياسي لها، بعض القضايا، من أجل تغيير حقيقة الأوضاع في المناطق الصحراوية، التي انخرطت ساكنتها في الخيار الديموقراطي والمشروع الحداثي للمغرب.
الكرة في ملعب الخصوم.
من جهته أكد الحسن بوقنطار، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن الخطاب الملكي "خطاب قوي يعبر عن إرادة المغرب في الدفاع عن وحدته الترابية، وتمكين الأقاليم الجنوبية، أسوة بباقي مناطق المملكة، من الشروط التي تسمح بتحقيق تنمية مستدامة وعدالة اجتماعية".
وأضاف بوقنطار، في تصريح نقلته وكالة المغرب العربي للأنباء " أن الكرة توجد الآن في ملعب خصوم الوحدة الترابية، من خلال تحمل مسؤولياتهم في العمل على رفع المعاناة والمآسي، التي يعيشها السكان المحتجزون بمخيمات تندوف، ويسعى زعماء ما يسمى بـ"البوليساريو"، بمساندة الجزائر، إلى استغلالها لتحويل المساعدات الإنسانية لصالحهم ومراكمة الثروات ورفض كل إحصاء موضوعي يبين حقيقة السكان الموجودين في مخيمات تندوف وعددهم، مشيرا إلى أن الخطاب الملكي السامي "يضع مرة أخرى النقاط على الحروف".
وأبرز أستاذ العلاقات الدولية أن الخطاب الملكي أعلن عن "قطيعة بخصوص التعامل مع المناطق الصحراوية، وذلك بعد الوصول إلى مرحلة النضج، التي بدأت تتطلب إبداع أسلوب جديد للتعامل مع هذه المناطق، والذي ينبني على بعدين، أولهما هو إقرار نموذج جديد للتنمية، ويكمن ثانيهما في خلق نموذج للحكامة، وهو الذي يأتي في سياق الجهوية المقدمة".
وتبعا لذلك، يبرز بوقنطار، فإن الملك أعلن في ما يتعلق بتفعيل النموذج التنموي في الأقاليم الجنوبية على مجموعة من التدابير، تتجلى، أساسا، في بناء وتشييد مجموعة من البنيات الأساسية، كما هو الشأن بالنسبة لمجالي السكة الحديدية والطرق أو بالنسبة لمشاريع أخرى تساهم في خلق تنمية حقيقية قائمة على المساواة وعلى استفادة عموم المواطنين من خيرات هذه المناطق وخيرات المغرب عموما، وذلك من خلال إقرار التنمية البشرية وجلب الاستثمار وخلق الشروط التي تمكن من تعزيز العدالة الاجتماعية.
لذلك، يضيف بوقنطار، فإن الخطاب الملكي السامي وهو يؤكد على هذه القطيعة سواء في ما يتعلق بالمجال التنموي أو الحكامة، فإنه وجه إشارات قوية تؤكد تشبث المغرب بمبادرة الحكم الذاتي، وأن هذه المبادرة هي أقصى ما يمكن أن تقدمه المملكة، مضيفا أن المغرب بتطبيقه للجهوية المتقدمة يعطي الدليل على حسن نيته وإرادته المتواصلة في البحث عن تسوية لهذا النزاع المفتعل في الصحراء المغربية، وذلك وفقا لقرارات مجلس الأمن، ولكنه يرفض كل قرار يخرج عن هذا السياق، والذي قد يشكل مغامرة غير محسوبة العواقب، كما أكد الملك، خاصة وأن المنطقة تنتمي إلى محيط مثخن بالاضطرابات.
"قفص تندوف"
بدوره أكد الأستاذ تاج الدين الحسيني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن الخطاب الذي وجهه الملك محمد السادس إلى الأمة، مساء أمس الجمعة، بمناسبة الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء، شكل ردا قويا على كل تهجمات الأطراف المعادية لمصالح المغرب، وخاصة الجزائر ومن ورائها صنيعتها "البوليساريو".
وأضاف الأستاذ الحسيني، أن أهمية الخطاب الملكي جاءت في مستوى حدث تخليد الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء، حيث ارتبطت في آن واحد بالحماس الشعبي وبالاستقبال الرائع الذي خصت به ساكنة مدينة العيون الملك محمد السادس، وهو شيء كان معبرا بقوة عن وضعية الأمن والاستقرار التي تعيشها هذه المنطقة بالذات، موضحا أن الملك ركز، في خطابه السامي، على ثلاثة محاور أساسية، في تناول الوضع الراهن والمستقبلي، تهم الوضع الداخلي والجهوي والدولي، معتبرا أن الشيء المهم في هذه المحاور الثلاث هو أن الخطاب الملكي كان صارما وواضحا ودقيقا ومعززا بالحجج.
ففي ما يتعلق بالوضع الداخلي، قال الأستاذ الحسيني إن الملك أعطى جوابا واضحا بالنسبة لوضعية انحباس المسار الأممي الذي أصبح يعاني من التلكؤ على مستوى المفاوضات، وأن المغرب حقق تطورات جد مهمة، من جهة على المستوى السياسي من خلال تفعيل الجهوية المتقدمة، التي ترتكز على القناعة الراسخة بمشاركة قوية لسكان الصحراء في الاستحقاقات الانتخابية واختيارهم لممثليهم، وهو المسار الذي أخذ طريقه بقوة، ومن جهة أخرى ما يتعلق بتطبيق المقترحات التي قدمها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والتي تهم، على وجه الخصوص، المشاريع التي تم إطلاقها، والتي أذنت بالمرور إلى مرحلة جديدة يطبعها الاستثمار والمشاريع الكبرى من سكة حديدية وطرق وموانئ وغيرها.
وبخصوص الوضع الجهوي، قال الأستاذ تاج الدين الحسيني إن الملك قام، ولأول مرة، بتحليل دقيق لما يقع في تندوف، سواء على مستوى وضعية الساكنة هناك، أو على مستوى وضعية القيادة التي تشرف على "البوليساريو" أو على مستوى دور الجزائر، موجها جلالته انتقادات حادة لكل من هؤلاء، وموضحا أن هذه الانتقادات ليست مجردة بل مدعمة بالحجج، بحيث سجل الملك، في ما يتعلق بسكان تندوف، أن وضعيتهم مأساوية ولا يتمتعون بأدنى وسائل العيش الكريم، وأن الذين وضعوهم في هذا القفص دفعوهم نحو التسول الذي لا تصل أمواله إلى هؤلاء المحرومين بل يتم اقتناصها من طرف تلك القيادات، مؤكدا أنه من واجب هذه الساكنة أن تنتفض على هذا الوضع لتغير وضعيتها المأساوية وإلا فإنها ستتحمل مآل وضعيتها.
وبالنسبة لقيادة "البوليساريو"، يقول الأستاذ الحسيني، فإن الملك وضع النقاط على الحروف بالنسبة لسرقة وتحويل المساعدات الدولية، وأعطى حججا بحوالي 60 مليون أورو تمنح سنويا، وحججا أخرى بوجودها في أبناك بدول بأمريكا اللاتينية ودول أوروبية بأسماء هذه القيادات التابعة لـ"البوليساريو". ثم بالنسبة للجزائر التي تتحمل مسؤولية هؤلاء اللاجئين والتي رفضت إحصاءهم وتمكينهم من وسائل العيش الكريم، كما أضاف المتحدث أن الملك سجل، في المحور الأخير المتعلق بالوضع الدولي، أن المسار الأممي يتعثر بكيفية مقصودة، مبرزا أن الملك وضع النقاط على الحروف كذلك بتأكيده أن سقف التنازلات قد انتهى، وأن مشروع الحكم الذاتي، الذي قدمه المغرب منذ سنة 2007، سيبقى آخر ورقة يمكن أن يقدمها المغرب في هذا المجال.
خطاب مسيرتين.
أما الباحث والأكاديمي، محمد سعد الطعواطي، فقد اعتبر أن خطاب الملك محمد السادس، الذي ألقاه اليوم الجمعة من مدينة العيون، هو خطاب "مرجعي يخلد لمسيرتين في آن واحد، مسيرة تحرير ومسيرة نماء الأقاليم الجنوبية"، مبرزا أن "الخطاب الملكي مرجعي كذلك لأنه يختزل تاريخ المغرب الحديث، الذي يتأسس على الثقة الغالية بين العرش والشعب والتلاحم بين كل مكونات المجتمع وتضحياته الجسام من أجل إقرار حق المغرب في صحرائه ومساهماته التضامنية لتحقيق التنمية في الصحراء المغربية تحت قيادة العرش العلوي المجيد".
وأكد الباحث، مؤلف كتاب "المسيرة الخضراء ..مسيرة فتح ونماء"، أن "الخطاب الملكي يعتبر مرجعيا أيضا لأنه ينفذ الى عمق القضايا التي تستأثر باهتمام المغرب وكنهها بالقول السديد والمنطق السليم والموقف الثابت والصراحة اللازمة التي جبل عليها المغاربة الأفذاذ"، معتبرا أن "مضامين الخطاب الملكي حافز ودافع قوي للمضي قدما أكثر فأكثر في مسيرة النماء والعطاء والنجاح التي أبدعها الملك محمد السادس بعد مسيرة الكفاح والتحرير والوحدة التي قادها الملكان الراحلان محمد الخامس والحسن الثاني".
واذا كانت جميع الخطب الملكية بمثابة خارطة الطريق ترسم، حسب الباحث محمد سعد الطعواطي، معالم المستقبل وتحدد الأولويات والمسارات التي على المؤسسات والهيئات اتباعها لتحقيق النجاحات تلو النجاحات في مختلف القطاعات الحيوية، "فإن خطاب الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء يتميز بكونه خطاب التحدي والثبات على الموقف وتجديد صلة الرحم المعنوية مع رعايا الملك التي لم يفتر توهجها منذ المسيرة الخضراء التي كانت بمثابة ذكرى الملك والشعب الثانية في تاريخ المغرب الحديث".
وشدد على أن الخطاب الملكي لليوم هو رسالة واضحة، لمن لازال يحتاج إلى التوضيح، بخصوص ملف قضية الصحراء المغربية والتي حسم فيها المغاربة منذ أن وطئت أقدام المشاركين في المسيرة الخضراء أرض الصحراء المغربية، وهو حق ثابت لا يقبل المساواة ولا المزايدات، كما أنه خطاب مميز ولافت، أسلوبا ومضمونا، ودليل متجدد على ثقة المغرب في قناعاته وتشبثه بمبادئه التي لا يتزحزح عنها.
سيادة المغرب على صحرائه.
سعيد خمري، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية، اعتبر من جهته أن الخطاب السامي الذي وجهه الملك محمد السادس، يوم الجمعة من مدينة العيون، تأكيد على أن سيادة المغرب على صحرائه لا يمكن أن تكون محل مفاوضات مع أي طرف كان، وإن قضية الصحراء ستظل في قلب اهتمامات الدولة المغربية.
وأضاف خمري، أن خطاب الملك، مرة أخرى، على أن مبادرة الحكم الذاتي تبقى هي أقصى ما يمكن أن يقدمه المغرب لحل النزاع المفتعل في الصحراء المغربية، وبأنه غير مستعد بتاتا للدخول في أي مغامرة تكون لها عواقب خطيرة على استقرار وأمن المنطقة، مشيرا إلى أن الخطاب هو أيضا تأكيد على الشرعية التاريخية التي تربط المغرب بصحرائه، وأن المملكة ملتزمة بمسار السلام لهيئة الأمم المتحدة، لاسيما قرار مجلس الأمن الدولي، الذي وصف مقترح الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية بـ"المصداقية والواقعية ".
وقال أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية، إنه "وبعد إقرار الجهوية المتقدمة في الدستور المغربي وتكريسها في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، وبعد إجراء الانتخابات الجماعية والجهوية في الرابع من شتنبر الماضي، والتي أفرزت منتخبين في جماعات وجهات المغرب ومن ضمنها الأقاليم الجنوبية، يكون المغرب، حسب الخطاب الملكي السامي، بصدد التدشين الفعلي للجهوية المتقدمة في كافة جهات المملكة وضمنها الأقاليم الصحراوية"، التي ستمكن ممثلي الصحراء الحقيقيين والحائزين على الشرعية الانتخابية والديموقراطية من ممارسة شؤونهم المحلية بكل حرية ومسؤولية، اعتمادا على موارد بشرية ومالية واختصاصات واسعة منحها لهم المشرع حتى يدبروا شؤونهم بكيفية ديموقراطية .
وأضاف خمري أن الوقت أضحى الآن مناسبا، بحسب الخطاب الملكي السامي، من أجل تنزيل توصيات تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بخصوص تنمية الأقاليم الجنوبية تنمية مندمجة تقطع مع اقتصاد الريع الذي استفادت منه فئة قليلة من سكان الصحراء على حساب الأغلبية، وتؤسس لمرحلة جديدة قوامها تكريس مبدأ المسؤولية والمحاسبة، وذلك من خلال إطلاق أوراش كبرى في العديد من القطاعات، منها النقل والصحة ومشاريع التنمية البشرية، وفتح مجال الاستثمار للقطاع الخاص الوطني والدولي، وكذا تمكين سكان الصحراء في إطار مقاربة تشاركية من الاستفادة من عائدات الموارد الطبيعية للأقاليم الجنوبية للمملكة.