أفهم من يفرح حين يخرج الناس إلى الشارع من أجل الاحتجاج.
وأعرف أن من بيننا من ينتشي وينتعش ويرقص وهو يرى آلاف المواطنين ينزلون كل نهاية أسبوع إلى شوارع طنجة.
وأعرف مَن فلسفته وإيديولوجيته هي توسيع مجال الصراع وتأجيجه، وما إلى ذلك من كلام على هذه الشاكلة.
وأعرف من يحلم منذ سنوات بهذه اللحظة، ولا يرغب في أن تتوقف، ليعلنها ثورة دائمة.
وأعرف من لا يرتاح له بال، ولا يجد معنى للحياة، إلا إذا أزمها ووترها وجعلها احتجاجا في احتجاج.
وأعرف من يمرض إذا كان الوضع هادئا ومستقرا.
وأعرف من توقفت عنده الحياة، حتى جاء سكان طنجة، وبعثوها في روحه.
وأعرف من يتمنى، في قرارة نفسه، أن يتدخل الأمن، ويقع ضحايا، كي يصرخ القمع القمع، ودولة البوليس، والمخزن، كي يجد معنى لوجوده، وإذا لم يتحقق ذلك، فإنه يصبر، ويظل ينتظر، ويمني نفسه بأن يهرق دم وبأن تقع اعتقالات وتوتر وفوضى وعصيان.
وأعرف البيرومان، عبدة النار، المصابون بهوس إشعال الحرائق، والذين لا يكفون عن ترديد شعار”واخا تعيا ما تطفي، غاتشعل، غاتشعل”
كل هذا موجود، وسيبقى موجودا، وأفهمه، وأعرفه، ولا اعتراض لي عليه، لأن الناس، هكذا، مختلفون، ولا يَرَوْن الأشياء بنفس العين، ولا يفكرون بطريقة واحدة.
لكني بالمقابل لا أفهم سبب كل هذا الغضب على رئيس الحكومة، ومهما حاولت أفشل.
لقد تأخر بنكيران، كثيرا، قبل أن يحذر من خطر النزول إلى الشارع، وقبل أن يعلن عن تخوفه مما يمكن أن تنزلق إليه هذه الاحتجاجات.
وهذا بالضبط ما يجب أن يفعله رئيس حكومة، في أي دولة في العالم، والذين ينتقدونه، يرغبون في أن يتحول إلى مناضل، وإلى قائد ميداني، وهذا لا يستقيم مع منصبه ومسؤوليته.
ومهما كانت القضية عادلة، ومهما كانت مطالب السكان مبررة، ومهما ارتفعت الفاتورة، فلا رئيس حكومة، ولا أي أي مسؤول في الدولة، يمكن أن نطالبه بالتهليل وتحية المحتجين.
وحتى في البلدان التي يحكم فيها الذين يمثلون الشارع، وأنصار الاحتجاجات والشعب، لا يترددون لحظة في قمع هذا الشعب، حين يعارضهم هذا الشعب، ويكتشف زيف الشعار، ومفارقته للواقع وللوعود.
نعم، الشارع غير مضمون، ولا أحد بمقدوره أن يضمن ماذا سيقع.
نعم، شعب طنجة أبان عن وعي نادر في الاحتجاج والتظاهر، لكن هذا لا يمنع من الخوف، وأن يوظف ذلك لحسابات سياسية، وأن تتوسع رقعة الاحتجاج، وأن ترفع الشعارات السياسية، ويتسلل بين المتظاهرين المتضررين من غلاء الماء والكهرباء من يستغل الفرصة للنيل من خصومه، ومن يسعى لتصفية الحسابات، وإحراج من يرغب في إحراجه، ومن يعبد النار والفوضى ويستعجل قدوم الثورة، موظفا الآلاف من سكان طنجة.
لقد قام بنكيران بما تفرضه عليه مسؤوليته ومنصبه، ولو طال صمته، ولو لم يتدخل، لشككنا فيه وفي نواياه.
لا رئيس حكومة في العالم يمكنه أن يفرح لوجود احتجاجات، إلا عندنا في المغرب، يطلبون منه أن يكون مع ملء الشارع ومع استمرار الاحتجاجات.
وليس بالضرورة أن يكون النزول إلى الشارع دليل صحة مجتمع ودولة، بل العكس، هناك بلدان في العالم، يعوض فيها الشارع المؤسسات المنتخبة، ويعرقلها، ويأخذ مكانها، وينتزع أدوارها، ويحتجز الدولة ويؤزمها، ويوقف سيرها، ويجعلها مهددة في أي لحظة، ومفتوحة على المجهول.
بنكيران في نظري على حق.
وخروج مدينة عن بكرة أبيها في تهديد للجميع
وللدولة
وللمواطنين
ولهؤلاء الذين ينزلون كل نهاية أسبوع إلى الشارع حاملين الشموع
لكن مشكل رئيس الحكومة
كعادته
هو لسانه الذي يخونه
وإيديولوجيته التي تغلبه في كل مرة
والتي تجعله يعتبر كل مخالف له
وكل معترض
وكل محتج
مثيرا للفتنة
وبدل أن يخمدها
يزيد في تأجيجها
ويقدم هدية على طبق من ذهب
للبيرومانيين
عبدة النار
المهووسين بالحرائق
والذين لا تهمهم الفواتير
ولا ارتفاعها
ولا انخفاضها
بل الشارع
ويريدونه غاضبا إلى الأبد
ويتمنون أن تندلع النار
ويتدخل رجال الأمن
كي ينتعشوا
ويرفعوا الشعارات
ويتفرجوا على الحريق
وهو يلتهم الأخضر واليابس.
حميد زيد كود