منذ عودة الرئيس السيد عبد العزيز بوتفليقة من رحلة العلاج إلى مستشفى فال دوغراس في فرنسا، غرق الخطاب السياسي للمُعارضة في مستنقع ما إصطلحت عليه هذه المُعارضة ب “شغور الرئاسة”، وكأنّ الرئيس بوتفليقة لا يُباشر مهامه الدستورية كما يجب، أو كأننا بزعماء بعض هذه الأحزاب والشخصيات السياسية، قد تحوّلوا إلى أطباء أو أساتذة في الطب، يحق لهم أن يُعارضوا ما أجمع عليه الطاقم الطبي للرئيس في الداخل والخارج، والذي يؤكد أن وضعه الصحي يسمح له بمُمارسة نشاطه بشكل إعتيادي.
خطاب “الشغور” بلغ مداه في الآونة الأخيرة بعد أن إنطلق الرئيس بوتفليقة في تجسيد الإصلاحات العميقة التي وعد بتحقيقها منذ وصوله إلى قصر المُرادية، فالعديد من قادة أحزاب المُعارضة وبعض “الشخصيات الوطنية”، وأمام هول ما أصابهم وسيُصيبهم جراء تجسيد هذه الإصلاحات، راحوا يروّجون لإشاعة أن “قرارات الرئيس الأخيرة، ليس هو من اتخذها، بل إن حاشيته ومقربيه، وعلى رأسهم شقيقه السعيد بوتفليقة، هم من يتخذون القرارات بإسم الرئيس بوتفليقة..”، وهنا نجد أنفسنا أمام إنقلاب جديد للمفاهيم والسيناريوهات، يُلغي أطروحة “الشغور” بعض الشيء، لكنه إنقلاب يُلغي في الوقت نفسه وجود الدّولة ومؤسساتها، بل هو انقلاب يصل إلى حدّ الإيحاء بأن أطرافا أجنبية وعلى رأسها فرنسا، هي من بات يُملي هذه القرارات.
في خضمّ كلّ ذلك تبرز تناقضات هذه المُعارضة، وهي تناقضات ليست فُجائية، لأن من روّجوا لأطروحة الشغور”، فشلوا في تمريرها، في الداخل وفي الخارج، لأنّ وقع الإصلاحات المُتواصلة وتأثيراتها في الرأي العام الوطني والدولي، ألغت أي صدى لخطاب مروجي الأطروحة إيّاها، لأنه وببساطة، ما أقدم عليه الرئيس بوتفليقة في الفترة الأخيرة، يُشكل بحق ثورة في تاريخ الجزائر المُستقلة، لم يجرؤ أي رئيس دولة قبله على إحداثها، إتقاءا للمخاطر التي قد تُصاحبها، وبذلك لا أعتبر شخصيا الحملات التي تُشنُّ على الرئيس بوتفليقة مُفاجئة، بل إنها كانت منتظرة وبقوة، لأن إصلاحاته الثورية ستُزيح وإلى الأبد، من حوّلوا بعض مؤسسات الدولة إلى ملكية خاصة بهم، يتصرّفون فيها بما يخدم مشاريعهم ومُخطّطاتهم، إصلاحات ستكشف للرأي العام في الجزائر قبل كلّ شيء، أنه كان يعيش فصول مسرحية لا غير، لأن ما كان يُعرض على الخشبة، يُعاكس بكثير ما كان يحدث في الكواليس.
كواليس صَنّعت أشكالا وهمية من الأحزاب والإعلام والشخصيات الوطنية ورجالات الأعمال…، وفرضت على المُشاهد أن يتقبّلها كشخصيات حقيقية، كواليس ترفض اليوم أن يُزاح الستار، وتنكشف الحقيقة..
اليوم أرى أن الرئيس بوتفليقة، قد كسّر الجدار، وأدخل الشعب الذي كان مجردّ متفرّج، ليكون بطلا فوق الخشبة، ويرى عن قرب كيف كانت “العلب السوداء”، تُنتج السيناريوهات، وتختارالمُمثّلين، والمُخرجين، وتفرض رؤيتها لما يجب أن تكون عليه العُقدة، ونهايتها.
اليوم وقد إختار الرئيس بُوتفليقة أن يقطعَ وبشكل نهائي مع “مسرح القاراقوز”، وتأثيره على سير الدولة الجزائرية، ليُعيد مهمة صُنع الحدث إلى الشعب الجزائري، فبطبيعة الحال أن أشباه المُمثلين والمُمثلين القدامى، سيثورون ضدّه، لأنه سيقطع أرزاقهم بإنهاء أدوارهم، وهي الأدوار التي ظلّت مُستمرة لعقود من الزمن، ومع مختلف الرؤساء السابقين، بل وحتى لفترة طويلة من عُهدات الرئيس بوتفليقة، الذي فضّلَ انتهاج سياسة الإحتواء قبل الإنقضاض، لأنه وبحكم تجربته التاريخية التي تمتد إلى ما قبل الإستقلال، يعي جيّدا أن التغيير الشامل يجب أن تُهيّأ له ظروف النجاح، وغير ذلك قد يعصف باستقرار وأمن الجزائر، لأن بعض كبار قدامى المُمثلين كانوا هم من يُنتج السيناريوهات، ويُنصّب المسؤولين على رأس الدوائر الثلاثة للدولة، سواء أحبّ رئيس الجمهورية أم كره، وما دام أن الرئيس قد كَسّر هذه المُعادلة، أي مُعادلة التّصنيع، وفرض الأمر الواقع على الشعب الجزائري، فبالضرورة أن مراكز من كانوا يُصنّعون ويفرضون منتوجهم على هذا الشعب، ستتزلزل، وتنهار، وهو ما لن يتم قبوله من قبل هؤلاء، لذلك نراهم اليوم يعيشون حالة من الهستيريا المُتقدمة، هستيريا دفعتهم إلى حدّ اتهام الرئيس بوتفليقة بأنه يُحضّر لتوريث أخيه السعيد بوتفليقة، وهنا لن أختلف معهم كثيرا، لأنهم وبهستيريتهم العمياء، يعترفون بأن الرئيس بوتفليقة هو من يتخذ القرارات المصيرية الأخيرة !؟
لكن أُسجل بالمُقابل، أنّ مُصطلح التوريث، لا محلّ له من الإعراب في الدستور الجزائري، ما دام أن الكلمة الفصل هي لصناديق الإقتراع، ومُجرّد الحديث عن التوريث، يكشف أن الممثلين القدامى هم من يُؤمن به، وهم من وصلوا إلى مناصبهم عبرَه، لأنه ومنذ الإستقلال، رأينا كيف أن “الغرف السوداء”، هي من فرض منطق التوريث في مناصب المسؤولية لفئة مُحدّدة من الجزائريين، يجوز لها دون غيرها أن تتحكّم في رقاب الشعب الجزائري، وإن هي حُرمت من “حقّ التوريث” هذا، فالجزائر بنظرها ستتجه إلى الكارثة، والإنفجار، وما شابههما.
ما دام أن مفهوم أو أطروحة “التوريث” تَقبل التأويل من كلّ الجهات، فلنترك للشعب الجزائري أن يختار أي توريث يُريده، توريث “الغُرف السوداء”، الذي عشناه منذ الإستقلال وإلى اليوم، أو “توريث” من يقطع مع من يعتبر الشعب الجزائري مجرّد مُتفرّج على خشبة مسرح “الغرف السوداء”.
عبد القادر حبيبي