كثر الكلام في هذه الأيام عن الإرث، وذلك بعد صدور توصية "المجلس الوطني لحقوق الإنسان"، دعا فيها إلى المناصفة في تقسيمه بين الجنسين. وكان حريا بهذا المجلس أن يشرك قبليا في الموضوع فقهاء الشرع والاجتماع والقانون، إلا السياسيين، خصوصا أولئك الذين إذا تطرقوا لمسائل حساسة أفسدوها وميعوها بتهافتاتهم وفقر زادهم.
وما دام ذلك الإشراك لم يحصل، فإن تمثيلية الوصية المذكورة ومصداقيتها تظلان رهن المساءلة والشك في مسوغاتها... وفي مسألة الإرث وأخرى في الفقه مرفقه أدلي بدلوي، قدر الاستطاعة، متوخيا ضبط الأمور وتوسيع دائرة النقاش.
1/ في الإرث
إن الإقرار للذّكر مثل حظ الأنثيين في الإرث، ليس من الضروري الدعوة إلى نسخه أو تعليق الآية الخاصة به (النساء، 11)، على غرار مثلا الآية 144 من سورة البقرة ﴿ فولِّ وجهك شطرَ المسجدِ الحرام﴾ بعد أن كانت قبلة الصلاة هي بيت المقدس. لكن هذا النسخ شأن إلهي وليس من فعل بشر، كما تدل عليه الآية 106 من سورة البقرة:﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها﴾.
لا حاجة بنا إذن إلى ذلك إذا ما عالجنا الأمر بالقياس والتخصيص، إذ يبقى للوالدين عموما حقُّ ممارسة سلطة التعزيز والتقدير لتوخي العدل والإنصاف في التقسيم، وذلك بالنظر في حالة كل وارث ووارثة من حيث الوضعُ المادي ودرجة الإحتياج، هذا فضلا عن وضعية الوارث الذكر العاق الذي لا يحسن إليهما، خلافا لما وصّى به الله وأمر في آيات بيّنات، منها ﴿ ووصيّنا الإنسان بوالديه إحسانا﴾؛ و﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا﴾ وغيرهما. لنلاحظ في هذه الآية الأخيرة أن برَّ الوالدين يعقب مباشرة قضاء الله بعبادته؛ ثم هناك حالة الوارث المستغني عن نصيبه، فيتنازل عنه لمن هو أحوج إليه (وقد يكون أنثى وربما ذكرا)، وغير ذلك من التخصيصات والمواقف. وبعض هذا نراه جاريا مع انعدام الورثاء الأقارب في توريث ذوي الأرحام من الأباعد.
إن مسألة الإرث لا تندرج، على أي حال، في فقه العبادات والقطعيات، بل في فقه المعاملات والحسابات التقديرية، وهذا الفقه بالذات انصبت اهتماماته على نوازل كثيرة متنوعة، بلغت أحيانا حدّا افتراضيا بل "سورياليا"، كالنظر السجالي مثلا في ما إذا مُسخ وارثٌ حيوانا أو حجرا هل ينال قسمته من الإرث أم لا... لكنْ أقرب من هذا إلى الاحتمال والحصول هو حالة الخنثى المشكل التي لم تنزل فيها آية، فأوجبت إعمال الاجتهاد، وقد اختُلف فيها، كما يعلم فقهاء الواقع.
وإذا ما تمثلنا الفروق بين الفقهين فإننا بهذا نفهم كون أثرياء كبار وحتى متوسطين (الذين لهم ما يُورث) يجمعون ورثتهم ذكورا وإناثا للتشاور والتراضي حول تقسيم الإرث وبالتي هي أحسن، أي بلا ضرر ولا ضرار. وهناك حديث نبوي شريف يحسن في هذا المقام استحضاره، إذا ما جاز القياس وإنْ بنحو اتفاقيٍّ مرن، وهو: "سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنتُ مفضلا أحدا لفضلتُ النساءَ على الرجال"، ومن هنا جواز التوريث بالوصية (كما عند أبي حنيفة)، هذا علاوة على حديث شريف آخر: "إنما النساء شقائق الرجال"، أي أنداد لهم، وهذا يصح خصوصا في زماننا، إذ صرن كذلك في القوامة، كما في الحقوق والواجبات...
2/ الزوجة الناشزة
يُستشهد في منحى تنقيصي بالآية 34 من سورة النساء: ﴿واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجرونهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا﴾. وهنا نحن أمام حالة حدية قصوى بل استثنائية قياسا إلى القواعد والمعطيات التالية:
أ- في القرآن الكريم، من بين الآيات المرجعية الكبرى في الموضوع آيتان، هما: ﴿ومـن آيـاتـه أن خـلـق لـكـم مـن أنـفـسـكـم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة﴾(الروم، 21)؛ و﴿وهن لباس لكم وأنتم لباس لهن﴾(البقرة، 187). وبالتالي، الأمر بالمعروفِ والإحسان في الزواج كما في الطلاق (أبغض الحلال إلى الله) هو القاعدة الأكيدة والركن الركين، تقول: ﴿الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان﴾ (البقرة، 229).
ب- "الضرب" في الآية المذكورة هو آخر ما يُلجؤ إليه في حالة نشوز الزوجة، على أن يكون خفيفا ليِّناً، وقيل بالكُمِّ أو بحزام من حرير، كما نصت على ذلك صراحة فقرة من خطبة الوداع التي يحسن دوما قراءة تلك الآية على ضوئها. يقول الرسول عليه السلام مفسرا معنى النشوز وطبيعة الضرب: "أما بعد، أيها الناس! إن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حق: لكم عليهن أن لا يوطِئن فرشكم غيركم، ولا يُدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتينَ بفاحشة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح".
ج- إن نبي الإسلام، وهو الأسوة الحسنة والقدوة المُثلي، تدل سيرته على أنه لم يضرب أبدا إحدى زوجاته، ولو في أصعب اللحظات وأحرجها مع بعضهن، كما في قصة الإفك المعروفة. وحسبنا أن نتأمل خاصيات المودة والرحمة في علاقاته بهن وبنساء عصره عموما. وفي هذا الصدد أقسمت السيدة عائشة، كما جاء في كتابعشرة النساء للإمام أبي عبد الرحمن النسائي: "والله ما ضرب رسول الله بيده امرأةً قط"، الحديث. وإذن، أفلا يحسن للحسم في تلك المسألة أن نجعل كفايتنا في نص حجة الوداع والسيرة النبوية وشهادة عائشة أم المؤمنين؟
3/ قطع يد السارق
الأمر بقطع يد السارق والسارقة، كما ورد في الآية 38 من سورة المائدة، قد أتى من باب التعميم أو عمومات النص، فلا بد عند التخصيص والنظر في الحالات مفردةً من قراءته عبر مبدأين فقهيين يمكن على ضوئهما قراءة المادة 11 من الإعلان العالمي السابق الذكر، حول براءة الظنين حتى تثبت قانونيا إذانته. والمبدءان هما: الأول درء الحدود بالشبهات. قال رسول الله عليه السلام: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلمين مخرجا فخلوا سبيلهم، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". وإيجاد "المخرج" هو ما يسمى في القانون الجنائي الحديث "الظروف المخففة"، كالجوع والاحتياج والفقر (و"كاد الفقر أن يكون كفرا"، كما في حديث شريف، أو كما قال أبو ذر الغفاري: "عجبت لمن لا يجد قوتا في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه)؛ وحسبنا أن نتذكر في هذا المقام إقدام الخليفة عمر بن الخطاب على تعليق حد السرقة حين حدثت أيامَ ولايته مجاعة عام الرمادة. وكان الإمام أبو حنيفة قد دعا إلى إلغائه، كما سبقت الإشارة.
أما المبدأ الثاني فهو سد الذرائع (أي اتخاذ الاجراءات الوقائية) الساعية إلى معرفة أسباب السرقة من أجل قطع هذي الأسباب الواقتلاع دواعيها، وليس إلى قمعها بقطع أعضاء جل والتمثيل به؛ فهذه العقوبة التي عفى عليها الزمن وأُلغيت في معظم البلدان الاسلامية لم تكن حتى حين تطبيقها رادعا كافيا للقضاء على ظاهرة السرقة واجتثاثها. فبالاضافة إلى معالجة عللها المباشرة، هناك أيضا عقوبات زجرية أو حبسية ينص عليها القانون الوضعي بحسب ظروف ودرجة الجنحة، مانعا المس بسلامة جسم الجانح أو تشويهه، كما أن من أنجع الوسائل لمعالجة الظاهرة تكمن في إعادة التربية وبيدغوجيا القول النافذ اللين، اقتداءً بالآية الكريمة، ولو أن سياقها مغاير: ﴿اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا ليّنا لعله يتذكر أو يخشى﴾(طه، 43-44).
4/ حرية العقيدة ووضع المرتد
تقول المادة الثامنة عشرة في الحقوق الفكرية والسياسية: "لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة". وعلى سبيل الملاحظة، إن الشق الثاني من هذه المادة عن حرية الشخص في إظهار دينه لا يبدو أنه يُحترم من طرف بلدان غربية ذات دساتير لائكية وغيرها، وذلك في الحملات الرسمية والإعلامية ضد ما اصطلح عليه بـ "الحجاب الإسلامي"، وما زال أوارها يستعر هنا وهناك وخصوصا بعد أحداث 11 شتنبر 2001 المهولة (وللإشارة فقط، هناك أيضا مادتان 13و23 ناقصتا أو ضعيفتا الأجرأة والتطبيق حول حرية التنقل والحق في العمل والحماية من البطالة). أما الشق الأول عن حرية الشخص في تغيير دينه ومعتقده فقد رأى بعض الحقوقيين الأجانب أن الإسلام يعارضه بدعوى أن الشريعة تحكم على المرتد بالاختيار بين التوبة أو الموت. والحقيقة أن هذا الحكم لم يكن كذلك إلا في زمن الفتوحات والحروب، بحيث كان يُنظر إلى المرتد والمنافق ويُتعامل معهما كما الشأن بالنسبة للخائن والمتعاون مع العدو حتى في أحدث الحروب الغربية؛ أما في زمن السلم فالقاعدة تقوم في هذه الآيات: ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ﴾ (البقرة، 256)، ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلُّهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ (يونس، 99)، ﴿فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر﴾ (الغاشية، 88). إنما الشرط العقلي في حرية العقيدة وتغيير الدين أن يكون الفاعل راشدا متمتعا بملكاته الفكرية والتمييزية، وليس شابا غِرّا هشّا سهلَ الانقياد والسقوط ضحية الحركات التبشيرية والتحرشات الدعويةِ الإغرائية.