في بلجيكا، الدولة الأوروبية ذات الماضي الديمقراطي العريق التي قد تسير دون توافق بين الفرنسيين والفلامان وتتوفر على ضمانات مؤسساتية كبيرة، سيتم اعتقال مضربين أغلقوا الطريق السيار مما حال دون وصول سيارة الإسعاف الشيء الذي أدى إلى وفاة سيدة، ويعتبر القضاء البلجيكي أن المضربين هم المتسبب في الموت وسيتم التعامل معهم على أساس أنهم قاتلون. هذه شعوب ودول تعاركت من أجل القوانين وسيادتها وصلت اليوم إلى أن الحرية لا تعني التعدي على حرية الآخرين، فالحق في الإضراب مكفول بالقانون لكن له ما ينظمه، وإذا كان لكل واحد أو مجموعة نقابية الحق في الإضراب فإن للآخرين الحق في عدم الإضراب، بل لا ينبغي أن يمس الإضراب حياة الآخرين بأي شكل من الأشكال. الذين أوقفوا السير في الطريق السيار يعتبرون في نظر القانون متسببين حقيقيين في موت السيدة التي تعذر وصول سيارة الإسعاف لإنقاذها. الغريب في الموضوع أن البلاجكة لم ينتفضوا ولم يتظاهروا ولم يلتجئوا للأجنبي للاحتجاج على القرار بل ما زالوا ينتظرون حكم القضاء، وهم في النهاية يطعنون في الأحكام بالوسائل القانونية ولما يصبح الحكم نهائيا يسلم به الجميع. في بلدنا الكل يريد أن يتحدى المؤسسات لفائدة الفوضى. متظاهرون صباحا مساء يغلقون الطرقات باسم الاحتجاج وباسم الحق دون مراعاة حق الآخرين في الوصول إلى أعمالهم وإلى قضاء أغراضهم والوصول إلى المستشفيات، وينتحلون صفة شرطة المرور حيث يمنعون السيارات من المرور، ومن رفض الانصياع يعتبر عميلا وقد يتم الاعتداء عليه. من قصص الاعتداء على الحق في الحياة، ما رواه الكثيرون عن صعوبة الوصول إلى المستشفى أثناء نقل مريض بسبب احتلال الشارع العام، من قبل فئات مجتمعية تشعر بأنها مهضومة الحق. لا يمكن أن نناقش حقهم في الشغل وطريقتهم في الحصول عليه ولكن نعتبر إغلاقهم للشارع العام اعتداء على حق الآخرين. في كل البلدان الديمقراطية تحتاج المسيرات إلى إذن مسبق من السلطات المختصة، وذلك قصد اختيار الشوارع التي تمر منها وتعمل السلطات على إدارة الإغلاق المؤقت للشارع، لكن لما يتم احتلال الشارع دون إخبار مسبق فإن الأمر يؤدي إلى كوارث أحيانا. وإذا كان الاحتجاج لا يحتاج إلى ترخيص فإنه لا ينبغي أن يؤدي إلى الإضرار بمصالح الآخرين وإلا سيصبح مخالفا للقانون. الفرق بيننا وبينهم هو أن القضاء هناك يتحرك بسرعة لحل معضلات التظاهر التي تضر بالآخرين، بينما هنا لا نجد سوى الجمعيات الحقوقية التي ترفع الأصوات عاليا تضامنا مع محتلي الشارع العام ومُدينة للأمن الذي قام بتحرير الملك العام والمشترك. ينبغي أن نبتعد عن التسطيح من أجل الحقيقة كاملة غير منفصلة وإلا سنقف أمام ممارسات باسم الحق لكنها مخلة بالقوانين ومضرة بحياة الآخرين وقد تؤدي إلى الموت مثلما حدث في بلجيكا، ولكن لابد من الإقرار بأن الحق في الاحتجاج لا يمكن أن يكون على حساب حق الآخرين في حياة بدون احتجاج.