سيكون جيدا لو تمسك إلياس العماري نائب أمين عام حزب الأصالة والمعاصرة بالفكرة التي عبر عنها مباشرة بعد الإعلان عن نتائج اقتراع الرابع من شتنبر، حينها كان دينامو الحزب قد دعا إلى خلوة تنظيمية لتقييم نتائج الحزب في الانتخابات الجماعية والجهوية، لكن وبدلا من الإكتفاء بالبحث عن الأسباب التي جعلت عددا من مرشحيه يفشلون بالظفر بمقاعدهم، مثلما صرح بذلك، يمكن إضافة نقاش أوسع حول السلوك السياسي للحزب، وحول جدلية الأخلاق والسياسة في العمل الحزبي.
وقبل بسط ما أراه ضروريا للنقاش، أستسمح القارئ في أن أعود إلى بدايات آرائي الشخصية من هذا الذي أسماه يوما إدريس لشكر ب«الوافد الجديد»، لقد كتبت سنة 2007 أن السيد فؤاد عالي الهمة، وكان حينها قد غادر وزارة الداخلية ليمارس حقه المواطن في العمل الحزبي، «يعالج السياسة من الزكام لكنه يصيب الديمقراطية بالذبحة الصدرية»، والحق يقال، أنه وعلى العكس من كثير من قيادات الأحزاب التي لاتقبل النقذ، لم يحتج الرجل، ولم يصدر تلك الأنواع من النعوث التي تصف الصحفي حين يخالف رجل السياسة الرأي بأنه عميل أو مأجور، واصل عمله بصمت المؤمن بما يعتقده صوابا، وحين جاءت رياح فبراير المغربي، وبدا أن الفكرة لا تناسب تعقيدات الواقع أو أنها عبء على الديمقراطية وليست حلا للخطر الأصولي الذي يتهددها، غادر المشروع وانتقل إلى المكان الذي يجيد فيه خدمة وطنه وملكه.
وقد بقيت على موقفي من حزب الأصالة والمعاصرة إلي غاية 2011 ، وفي الإنتخابات الإستثنائية التي عاشها المغرب تلك السنة، استطاع الحزب، ورغم كل الضغوطات التي تعرض لها و«الحمية» التي أخضع لها ترشيحاته، أن يحتل الرتبة الرابعة بما مجموعه 47 مقعدا في مجلس النواب، لقد كانت هذه النتيجة تحصيل مجهود ذاتي في انتخابات اعترف الجميع بنزاهتها المطلقة، وكيف لا وهي التي سمحت لحزب العدالة والتنمية، الذي كان مطلوبا حله سنوات قليلة قبل ذلك، بأن يحصد من المقاعد ما لم يحققه غيره في كل تاريخ الإنتخابات المغربية. وبالنسبة لي كان ذلك يعني نهاية حكاية «الفديك الجديد» الذي يستفيد من دعم الإدارة الترابية، وميلاد حزب يتمتع بالمشروعية الإنتخابية التي تجعله حزبا كغيره من الأحزاب السياسية الموجودة في المشهد السياسي الوطني.
وبغض النظر عن كثير من الحيثيات التي لا مجال للتفصيل فيها هنا، والتي تتعلق أساسا بسر التقارب المفاجئ بين «البام» وحزبي الإتحاد الإشتراكي والإستقلال، نجح الحزب من الناحية المبدئية، فضلا عن امتلاك مشروعيته السياسية في أن يفك عنه العزلة السياسية التي كان يعيشها وسط الأحزاب التي توصف بأنها سليلة الحركة الوطنية، لقد كان تشكيل تحالف المعارضة مع حزبي الإستقلال والإتحاد الإشتراكي مكسبا للحزب الذي أضاف إلى مشروعيته الإنتخابية مشروعية أخرى يمكن وصفها بالسياسية.
وظل المسار يسير بهذا الإيقاع التصاعدي في مراكمة صورة جديدة عن حزب يطبع مع الممارسة الحزبية العادية، ثم جاء اقتراع الرابع من شتنبر الذي احتل فيه الحزب الرتبة الأولى في الجماعات المحلية والثانية في المجالس الجهوية ليؤكد صلابة القاعدة الاجتماعية والكتلة الإنتخابية للحزب، رغم بعض سطحيات التعبير من قبيل أن الناخبين طردوه إلى البوادي، لكن الأمور ستشرع في الإنقلاب على نفسها منذ يوم انتخاب رؤساء الجهات وانتهاء باليوم الذي تم فيه انتخاب رئيس مجلس المستشارين، لقد كنا في الواقع إزاء مدة زمنية قصيرة استهلك فيهما الحزب الكثير مما راكمه من رصيد مشروعية سياسية وشرعية انتخابية.
وأجدني أشاطر الصديق و الأستاذ الجامعي المرموق حسن طارق فكرته بشأن صعود «البام» نحو العزلة، لقد كانت خاتمة المسلسل الإنتخابي أن ربح البام أكثر من مليون صوت ورئاسة خمس جهات ورئاسة مجلس المستشارين، لكنه خسر الإتحاد الإأشتراكي وحزب الإستقلال (بغض النظر عن تقييمنا لشخصية حميد شباط وإدريس لشكر)، وفي المقابل قدم خدمة ثمينة لحزب العدالة والتنمية الذي نجح في أن يقرب منه الإستقلايين وأن يعلن شباط مساندته النقدية للحكومة، بل وشرع الإستقلاليون في الحديث عن أن اصطفافات جديدة ستجري في المشهد الحزبي.
لقد كانت نتائج انتخابات رؤساء الجهات ومجلس المستشارين أن وضع البام نفسه وسط تكتل سياسي هجين، يضم أحزابا استقلاليتها في القرار موضع نقاش، وقناعاتها المبدئية فيها كثير من اللبس الذي رافق نشأتها منذ أيام المحجوبي أحرضان وأحمد عصمان والمعطي بوعبيد، إنه الخلل الكبير الذي أحدثه البام في الميزان السياسي من حوله، وهي تلك اللحظة التي تختل فيها موازين اللعبة لصالح تكتل قوي تسميه الباحثة مونية الشرايبي بأحزاب المناضلين في مواجهة تكتل هش تطلق عليه وعن حق توصيف أحزاب الأعيان.
أن يغضب منك العدالة والتنمية فتلك حكاية مفهومة البدايات، أما أن ينقلب عليك الإتحاديون والإستقلاليون فلا شك أن في سلوكاته ما يبعث على عدم الثقة وعلى عدم الإطمئنان، وإن شاء «الباميون» بعض عناصر التفكير لخلوتهم التي دعا إليها إلياس العماري، فربما يكون سؤال الأخلاق السياسية مطروحا بقوة، وفي تفاصيله سؤال احترام التعاقدات مع الحلفاء، وسؤال احترام قرارات الأحزاب الخاصة وسيادتها الحزبية، وسؤال القدرة على التباري الحر ودون توجيه ضربات تحت الحزام، وبين كل هذا وذاك إشكال عدم تحويل إرادة الناخبين المعبر عنها في الإنتخاب المباشر إلى واقع إنتخابي آخر تصنعه كائنات انتخابية تحمل إسم «ناخبين كبار» وهم في الواقع «شناقة» يجمعون الأصوات ليضاربو،ا بها في سوق الفساد السياسي.
إنه لمن المفارقة أن ينتقل «البام» من حزب يعاني من خلل النشأة والتباساتها إلي حزب يواجه أعطاب أخلاق السياسة، وإن كنت من الذين يرفضون أطروحة التحكم في لعبة سياسية مفتوحة مثلما أراها ويعترف بها الجميع، وأرى أن الحزب أثبت حقا أن هناك سببا لوجوده في تنافس حزبي مختل ويحتاج لإعادة التوازن إليه، فإني وفي نفس الوقت، أعتقد أن على «البام» إعادة قراءة سلوكه السياسي، فقد ظهر حتى الآن أنه عنصر توثر سياسي في المشهد الحزبي، ليس بسبب مواقفه السياسية أو طروحاته النظرية، ولكنه بفعل انزلاقاته السلوكية التي تعلي من فنون البراغماتية التي تقترب من الإنتهازية المقيتة.
ومع ذلك سأظل دائما عند قناعتي: البام حزب له موقعه في المشهد السياسي الوطني، لكن عليه أن يقنع عموم الناس، بأنه قادر على تدبير هذا التموقع بكثير من القناعات والمبادئ والأخلاق، وقليل من هواجس انتزاع المناصب والمقاعد مهما كان الثمن.
يونس دافقير