شريف السليماني.
عاشت الكثير من الدول العربية والإسلامية في السنوات الأخيرة ولا زالت تعيش أزمات سياسية واقتصادية وأمنية عصفت ببعضها وكادت تعصف بالبعض الآخر. وكان المغرب من بين الدول القلائل التي نجت من هذه العواصف القواصف، إذ ظل يتمتع باستقرار سياسي وأمني واقتصادي فقد في محيطه. ومن واجبنا نحن المغاربة -بعد أن نحمد الله ونشكره إذ عافانا مما ابتلى به الكثير من الدول- أن نبحث في الأسباب التي خلقت الاستثناء المغربي وجعلت البلد ينجو من طوفان عدم الاستقرار الذي عم المنطقة.
قد تكون لحالة الاستقرار التي يعرفها المغرب أسباب متعددة تظافرت مع بعضها، إلا أنني سأركز في هذه المقالة على السبب الرئيس كما أراه، والذي يتمثل في كون تحديد هوية الدولة من صلاحيات الملك فقط.
لا يمكن أن نفهم الدور الذي لعبته الملكية إلا بعد الوقوف على حقيقة الأسباب التي أدت إلى حالة عدم الاستقرار بباقي تلك الدول، وهي أسباب أيضا متعددة، منها الظلم والاستبداد من جهة الحكام، والخطأ في أسلوب التغيير من جهة المعارضين لأولئك الحكام. وقد تكون هناك أسباب أخرى داخلية وخارجية تظافرت كلها لتصنع المأساة بتلك البلدان، غير أن هذه الأسباب كلها تتقاطع عند هدف واحد في الغالب، وهو " الرغبة في التحكم في هوية الدولة". فمن أقطاب الفتنة من يريد علمنة الدولة ومنهم من يريد أسلمتها، ومنهم من يرريدها دولة شيعية ومنهم من يريدها سنية.... وحتى الذي يتفقون على أسلمة الدولة يختلفون ويتقاتلون حول شكل هذه الدولة الإسلامية وصورتها وبعض تفاصيلها.
حاول البعض في بداية الحراك إخفاء هذا الهدف والظهور بمظهر من يريد محاربة الظلم والاستبداد، لكن الأيام -وخاصة بعد سقوط بعض الأنظمة- كشفت أن الهدف الأكبر من وراء كل ما حدث هو ما ذكرت، أي: الرغبة في التحكم في هوية الدولة. وإلا، فما المبرر لاستمرار الصراع وربما القتال والفتنة وقد سقط النظام؟. والحال في العراق واليمن وليبيا ومصر خير دليل. فالكل يريد أن يستأثر بتحديد شكل الدولة وهويتها ويصنعها على مقاسه ووفقا لإيديولوجيته. وما مسألة رفع شعار محاربة ظلم الحكام واستبدادهم في الحقيقة، إلا مقدمة من أجل هذه النتيجية. والوقائع تؤكد أنه كلما نجح فريق في الوصول إلى السلطة، سارع إلى تغيير القوانين التي لها علاقة بهوية الدولة كالأسلمة والعلمنة. أما مسألة تحسين الخدمات ورفع الظلم ونشر العدل والمساواة، فشعارات لم نر لها أثرا إلى حد الآن.
هذا الصراع الذي يكون الهدف من ورائه التحكم في هوية الدولة، غالبا ما ينتهي بالعنف حتى وإن بدأ بالسلم. لأن الخاسر فيه، أي الذي لم يصل إلى السلطة، لن يقف مكتوف الأيدي وهو يرى هوية الدولة وإيديولوجيتها تتغير لتصبح على مقاس من يحكمون! سيصبح الصراع إذا صراعا هوياتيا إيديولوجيا من أجل البقاء، لا علاقة له بالمنافسة الشريفة في تدبير شؤون الناس! وهذا هو الحاصل في معظم الدول التي فقدت أمنها واستقرارها بعد موجة ما سمي ب"الربيع (العربي) الديموقراطي".
نجا المغرب ولله الحمد من هذا الصراع الهوياتي الإيديولوجي حول شكل الدولة، لأن تحديد وحماية هوية الدولة وشكلها من صلاحيات الملك حسب ما يخوله الدستور في فصله الواحد والأربعين. "فالملك أمير المؤمنين، وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشعائر الدينية، وهو رئيس المجلس العلمي الأعلى..." هذه الصلاحيات الحصرية للملك هي التي أنجت المغرب بفضل الله من عدوى الاضطرابات التي عمت معظم الدول.
من الملاحظ أن الصراع السياسي (الإيديولوجي) في المغرب يكاد ينحصر بين فريقين اثنين، إسلاميين وعلمانيين. ويوجد من بين كل فريق معتدلون ومتطرفون. ومن الطبيعي أن يرغب الإسلاميون في أسلمة الدولة، كما يرغب العلمانيون في علمنتها. طبعا حسب تصورات مختلفة ومتعددة لشكل هذه الدولة برؤية الفريقين. والذي يقرأ أدبيات الإسلاميين والعلمانيين في المغرب -وعلى حد سواء-، يتأكد أن التحكم في شكل الدولة وتحديد هويتها غاية الجميع. شأنهم في ذلك شأن "إخوانهم" أو"رفاقهم" في باقي الدول العربية والإسلامية. إلا ان الوضع في المغرب لم ولن يسعفهم في ذلك، لكون هذه الصلاحيات بيد الملك وحده. وهذا ما خلق وضعا استثنائيا في المغرب تتجلى صوره فيما يلي:
أولا: وجود إسلاميين وعلمانيين (ممن سلموا وقبلوا بهذه الصلاحيات المخولة للملك) جنبا إلى جنب في الحكومة! لأنهم أيقنوا أن الخلافات الإيديولوجية لن تؤثر في العمل المشترك بين الطرفين، ما دامت هوية الدولة وإيديولوجيتها ليست من اختصاصات الحكومة.
ثانيا: خلق جو سياسي يعتمد التنافس حول تدبير الشأن العام، وانخفاض التجاذبات الإيديولوجية التي تسود الأوضاع في الدول الأخرى غير المغرب، والتي غالبا ما تنتهي بالفوضى والعنف.
ثالثا: وجود نوع من الراحة والطمأنينة لدى المغاربة من كل التوجهات والمشارب حول شكل وهوية دولتهم. فبهذه الصلاحيات المخولة للملك، لا يستطيع فريق من الفريقين -مهما بلغت قوته- إسلاميا كان أو علمانميا، أو قوميا أو عرقيا، أن يزحزح هوية الدولة ذات اليمين أو ذات الشمال. ووضع كهذا يسهل معه أيضا قبول الخسارة في الانتخابات السياسية، لأن الخاسر، يعلم أن الفائز وإن اختلفت إيديولوجيته لا يستطيع فرضها على الدولة. وهذا من شأنه أن يخفف من حدة الاحتقان، ويخلق لدى كل الأطراف جوا من الأمان.
طبعا، هناك فئة قليلة من المغاربة ليست راضية على تخويل هذه الصلاحيات للملك. وتتكون هذه الفئة من إسلاميين ويساريين وعرقيين، جمعهم هذا الموقف في ما سمي ب:"حركة 20 فبراير"، رغم أنهم يختلفون في كل شيء!
من خلال ما سبق يتبين أن الملكية وبالصلاحيات المخولة لها في هذا الموضوع، كانت ولا تزال عاملا حاسما في استقرار المغرب. وعلينا أن نتصور كيف سيكون الوضع لو أن وزارة الأوقاف أومؤسسة الإفتاء أصبحت تابعة لحزب سياسي -إسلاميا كان أوعلمانيا- مع ما نلحظه من شطط وعدم نضج لدى بعض قيادات هذه الأحزاب!
من الطبيعي أن ينشد الإنسان التطور والتقدم لبلده، لكن ذلك يجب أن يكون ضمن نظرة حكيمة تراعي الظروف والحيثيات والمآلات. وفي هذا الصدد أتساءل إن كان هناك وضع أمثل وأفضل وأدعى لاستقرارالمغرب من الوضع الراهن الذي يجعل شكل الدولة وهويتها من صلاحيات الملك؟. فلو تعلمنت الدولة قيد أنملة لثار الإسلاميون، ولو تأسلمت قيد أنملة لثار العلمانيون. وهي بشكلها الحالي تجمع بين ما يرضي الطرفين. فالمغرب دولة إسلامية من منظور الكثير من الإسلاميين، وهو أيضا دولة حداثية من منظور الكثير من العلمانيين! مما يجعل كلا الطرفين راض إلى حد ما على شكل الدولة الحالي. وعلى الذين يريدون نزع هذه الصلاحيات من الملك أن لا ينسوا أن رياح التغيير في هذاه النقطة بالذات قد تأتي بما لا تشتهيه سفنهم، وقد يجدون أنفسهم في وضع يفقدون من خلاله الكثير مما لديهم الآن، بعدما كانوا يتوهمون أنهم عبر التغيير سيكسبون!
charifslimani@hotmail.com