فضّل "المناضل" زكرياء المومني، الذي لا يُشَقُّ له غبار في مجال المزايدة والمساومة مع إضفاء جرعة كبيرة من "توابل" الابتزاز والضغط و"التْمَكْرِيه" بالتعبير المغربي الفصيح، أن يُعلن انسلاخه ـ كما ينسلخ الثعبان من جلده ـ وسَلَّ نفسه ـ كما تُسَلُّ الشعرة من العجين ـ عن وطنه وهو يُشْهِدُ الناس على فعله، وعلى مرأى ومسمع من الشهود الذين يُقَدَّر عددهم بالآلاف إن لم نقل الملايين. وبذلك يكون "المناضل" قد قطع جميع خطوط الاتصال والتواصل بوطنه وأرضه ـ ليس بالْبُّورْتَابل أو أيّ جهاز ـ بمعنى الاتصال والتواصل الوجودي. تصل عقدة التضخّم الأنانية لدى البعض درجة من الوهم تجعله يتصور أنه "وحده يْضَوِي البلاد"، أو أن المغرب، بكل ثقله وحُمُولته ووزنه وعمقه التاريخي والحضاري والإنساني، يمكن أن يخضع لنزواته ومكبوتاته، وإلاّ فإنه مستعد لكي "يَطَبّ" في هذا الوطن من خلال التشهير والتشنيع به قبل الإقدام على حرق عَلَمِه أو تمزيق جواز سفره وإعلان التَّبَرُّؤِ الشامل الكامل من الوطن. هذا التضخم الأعمى هو الذي يُزَيّنُ للبعض أنه بدونهم لن تقوم للمغرب قائمة، وأنه بقدرتهم تغيير أحوال طقس البلاد بِجعْلِهِ مُمْطِرا أو مُشْمِساً في الوقت الذي يريدون، بل أنه بمقدورهم عرقلة أيّ تطور أو تقدّم في البلاد. والأغرب من الغرابة، والأفظع من الفظاعة، حين تُسَاوِرُ البعض أوهام من قَبِيل أن باستطاعته تركيع وطن بكامله. أما الأبشع من البشاعة فتلك التي تجعل "مناضلا" على هذه الشاكلة يفتخر كل الافتخار بأنه شَوَّهَ صورة البلاد التي لم يعد يرضى بالانتساب أو الانتماء إليها. والله على ما فعل شهيد. "المغربي يموت على بلاده أو أولاده". لم تصدر هذه المأثُورة من فراغ أو سقطت من السماء. بل نطق بها الحكماء المغاربة منذ مماليك الأمازيغ إلى اليوم. وستبقى الحكمة سارية إلى ما شاء الله. وليس بمقدور كائن من كان أن يَمْحُو أو يُزِيل هذه المأثُورة ولو كانت بين يديه كل السُّلط. أتعرف يازكرياء وغير زكرياء من الذين نزعوا عنهم أسماءهم، لماذا؟ لأن المأُُثُورة خرجت من صلب الأرض، تحمل رائحة التراب ورائحة الأجيال سَلَفاً عن خَلَف، وأجيالا بعد أجيال عبر مسار طويل عميق في دروب ومنعطفات وسُبُل التاريخ. كان خروج الحكمة تلقائيا وليس بِأَمْرِ آمِرٍ أو حُكْمِ حاكمٍ. لم ينص عليها قانون ولا دستور. خرجت من قلوب المغاربة وهم يواجهون مختلف المحتلين والمستعمرين من إمبراطوريات سارت ثم بادت، بصدور عارية إلاّ من شيء واحد. أتعرفه ياهذا ؟ إنه الإيمان. هناك مغاربة في درجة وطبقة أدْنَى من درجتك وطبقتك يناضلون بالفعل طول اليوم وطول العُمْر ولا يرضى أحد منهم أن يمدّ يده للآخر أو أن يَسْلك سبيل المناورة ويخيط تفاصيل الابتزاز وممارسة "التّمَكْرِيه" ضد بلده؛ يكافح بالعرق والدموع ولا يقبل من أحد أن يمسح له عرقه أو دموعه. هناك شيء اسمه عِزّة النفس والتّعَفُّف والمُرُوءَة.. أشياء لا تُعَلَّم ولا تُشْتَرى أو تُكْتَرى، بل تسري في العرُوق مسْرَى الدم. وما العمل مع من لا ينتمي لهذه الفصيلة؟ هل نشري له هذه الْقِيَم غير القابلة للكراء أو البيع؟ ماذا بعد أن تم تمزيق "الباسبُور لخضر" على رؤوس الأشهاد واختبار "الباسبور لحمر"؟ وما ومن يمنعك من أن تنسلخ أيضا عن اسمك وأصلك وفصلك وتختار لنفسك اسم "رُوبير" أو "نيكولا" أو "دانييل" أو "جِيرُوم" بعد أن حصلتَ على جنسية أخرى؟ لقد مزّقتَ اسمك واسم عائلتك وهويتك ووطنك. فما الفائدة في الاحتفاظ باسم مَرَّغْتَه في التراب. كل شيء مُبَاح أمامك ولن يناقشك فيه أحد بعد أن اخترت ألاَّ تناقش أحدا فيما فعلت. كُن مطمئنا. لن تبكي عليك السماء والأرض يا ذاك الغافل. لقد أعطيتَ الدليل على أنك من درجة وطبقة وهوية لا وجود لها بين المغاربة.