إذا كان هناك من خاسر أكبر من الثورة الليبية بعد القذافي نفسه وعائلته فهو الجزائر وحكامها العسكريون المتوارون خلف سترة مدنية مكشوفة وصنيعتهم المتهالكة «البوليساريو». لقد عمل من يملكون زمام السلطة في الجزائر العاصمة على أن تكون ليبيا، بصحرائها الواسعة المترامية، مقبرة أبدية يتلاشى فيها ما أطلق عليه «الربيع العربي»، وبالتالي ينتهي أرقهم
من وصول رياح التغيير التي هبت في بلاد شتى. إن الاتهامات التي أعلن عنها المجلس الوطني الانتقالي باعتباره ممثلا سياسيا لثورة سلمية -أخذت بعدها المسلح بعد القمع العنيف والدموي الذي واجهها به ديكتاتور طرابلس المنهار- لم تكن بلا أساس واقعي، فمنطق الأشياء يقضي بأن حركة ثورية تواجه نظاما قمعيا لم تكن، بأي شكل من الأشكال، في حاجة إلى اختلاق صراعات هامشية تضعف تركيز جهودها في مواجهة النظام. منذ بداية الأحداث في النصف الثاني من شهر فبراير الماضي، حاول المسؤولون الجزائريون التهويل من «الخطر الإسلامي» الذي تنطوي عليه ثورة أحفاد المختار، منتهزين كل الفرص واللقاءات والمحافل لإثارة موضوع مشاركة عناصر من «القاعدة» في القتال إلى جانب الثوار وإمكانية استفادة «القاعدة في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء» من الفوضى في بلد شاسع كليبيا لتطوير ترسانتها وتكديس المزيد من الأسلحة التقليدية، وربما غير التقليدية. وهنا نتساءل: هل الجزائر أحرص على محاربة «القاعدة» من كل الدول الغربية والعربية التي ساندت كفاح الشعب الليبي من أجل الحرية والانعتاق؟ هل أصبح خطر «القاعدة» مبررا لقمع الشعوب وإجهاض حلمها في التحرر والكرامة؟ إن الشعوب، التي رفضت الأنظمة القمعية وواجهتها بجدارة، قادرة على مواجهة «القاعدة» وفكرها الإقصائي وأساليبها الدموية البغيضة. إن الحرية وأجواء الإبداع والمشاركة التي توفرها الديمقراطية التعددية هي الجدار الحقيقي الذي ستنكسر عليه أفكار الجماعات الإرهابية التي تعشش في مناخ الإقصاء والفقر وانسداد الأفق الاجتماعي والسياسي. والدليل هو أن الجزائر، التي تصرف مليارات الدولارات على آلتها العسكرية، لم تتمكن من القضاء على جماعات مسلحة تنشط في مناطق لا تبعد كثيرا عن العاصمة!
إن هذه التساؤلات يغذيها الموقف الجزائري المشبوه، خاصة بعد أن تأكدت مشاركة عناصر من البوليساريو في القتال إلى جانب كتائب القذافي ومرتزقته. إن هذا الوضع الذي أوجدت سلطات «قصر المرادية» نفسها فيه يجد تفسيرا له في التطورات التي عرفتها وتعرفها المنطقة بشكل عام في سياق التحول من مشروعية دولة الاستقلال ومشروعية تدبير الصراع ضد جهات خارجية (الغرب - الاستعمار - إسرائيل -... إلخ) إلى مشروعية الديمقراطية ومشروعية الشعوب باعتبارها مصدرا للسلطة ومالكة للثروة، فالجزائر قبل أن تشكل نشازا في موقفها من التغيير الجاري في جارتها الشرقية قد شكلت استثناء في مسار التحول الذي شهدته وتشهده منطقة شمال إفريقيا؛ فإذا كانت تونس قد عرفت طريقها إلى الثورة، وإذا كانت موريطانيا قد دخلت مرحلة حراك سياسي ساخن منذ الانقلاب على حكم «معاوية ولد سيدي حمد الطايع»، وإذا كان الشعب الليبي قد ثار على ديكتاتور العزيزية، وإذا كان المغرب قد نجح في فتح مرحلة من الإصلاحات الواسعة والمصالحة والقطع مع ماضي «الرصاص» في أفق تحول ديمقراطي سلمي رغم كل المؤاخذات التي يمكن أن تسجل على هذا المسار، فإن الدولة التي لا زالت وفية لاحتكار السلطة والجمود السياسي وتكريس الفقر رغم الثروة النفطية هي الجزائر؛ فهذه البلاد لا زالت حبيسة هيمنة الجنرالات الذين هبوا لإنقاذ صديقهم «العقيد»، ليس حبا فيه ولا إيمانا بنظرياته «المجنونة» وإنما خوفا على أنفسهم من مد كاسح لا يعرف الحدود هم موقنون بأنه آت عليهم.. إن سادة الجزائر العاصمة ومعهم عصابة «الرابوني» في حمادة تندوف باتوا يشعرون الآن بأن عهدهم قد ولى وأن المستقبل هو للشعوب، ولذلك حاولوا إجهاض الثورة الليبية في المهد، إلا أن الشعب الليبي الشجاع، بعربه وأمازيغه وبمساندة المجتمع الدولي، هو من «أجهض» حلم الجنرالات وحوله إلى كابوس يهدد مستقبلهم ومستقبل عصابة البوليساريو التي ما فتئت تهدد بالعودة إلى حمل السلاح بعد أن أحست بأن الدائرة تضيق عليها وبأن عزلتها وعزلة «أولياء نعمتها» بدأت تتفاقم.
إن حكام الجزائر اليوم في موقف لا يحسدون عليه، فقد خسروا حليفا يقاسمهم أصول الديكتاتورية، وفي الآن نفسه تضررت علاقتهم بفرنسا باعتبارها أول من اعترف بالمجلس الانتقالي كممثل وحيد للشعب الليبي، وفي الجانب الآخر استطاع المغرب اكتساب حليف جديد يتمثل في سلطات طرابلس الجديدة في الوقت الذي تعززت فيه علاقته بقطر ودخلت فيه علاقته بدول الخليج مرحلة جديدة قد تتوج بالانخراط الكامل أو بوضعية امتياز استثنائي.
إن الثورة الليبية أخذت بعدها الدولي في إعادة رسم التحالفات والمزيد من تضييق الخناق على روسيا التي تفقد حلفاءها واحدا تلو الآخر وكذا تعاظم الدور التركي في السياسة الدولية.
إن استقبال الجزائر لأفراد من أسرة الزعيم المخلوع» أكدت كل الشكوك والاتهامات التي طالت الموقف الجزائري.. كما أكدها من قبل كونها سلمت في بداية الأحداث مجموعة من الضباط الليبيين الفارين إلى الحكومة الليبية السابقة في خرق لكل الأعراف والمبادئ الإنسانية، وتحركت أخيرا نواياها «الإنسانية» في حالة أبناء القذافي فاستقبلتهم «لدواع إنسانية»! لقد آن الأوان لحكام الجزائر أن يتخلصوا من «ماضويتهم» وينفضوا عنهم مشاعر الحقد على جيرانهم ويدركوا أن مستقبل الشعب الجزائري لا يمكن فصله عن مستقبل الشعوب في المنطقة. إن الجهد الدولي ضد الإرهاب هو جهد عالمي مشترك لا يحق للإخوة الجزائريين ادعاء الوصاية عليه أو الحرص عليه أكثر من الآخرين، أما نضال الشعوب ضد الاستبداد، فهو تطلع جماهيري مشروع تقوده الأمم بوسائل وآليات تختلف حسب الظروف والأوضاع. لقد جاء الوقت الذي سيقول فيه شعب الجزائر كلمة «الفصل» في حكام يتلاعبون بمستقبله ومستقبل شعوب المنطقة، فديكتاتورية «أيتام العقيد» ستسقط لا محالة ومعها دولتهم «الوهمية» في صحراء أبت أن يكون مستقبلها إلا في ظل مغرب يتحول ويخطو بثبات نحو الديمقراطية.
علي حاجي - ناشط سياسي وجمعوي مهتم بالعلاقات الدولية