في خطابه السامي، بمناسبة مرور أربعة وثلاثين عاما على انطلاق المسيرة الخضراء المظفرة، وكما هي عادته، كان الملك محمد السادس دقيقا في انتقاء مفرداته، حيث قال يومها: "...فإما أن يكون المواطن مغربيا أو غير مغربي، وقد انتهى وقت ازدواجية المواقف والتملص من الواجب، ودقت ساعة الوضوح وتحمل الأمانة، فإما أن يكون الشخص وطنيا أو خائنا، إذ لا توجد منزلة وسطى بين الوطنية والخيانة، ولا مجال للتمتع بحقوق المواطنة والتنكر لها، بالتآمر مع أعداء الوطن...".
وقد يكون الخطاب مع ما حمله من تحذيرات بنبرة حادة، فصيحة وصريحة، لا يستهدف فقط تلك الشرذمة من الأفاقين والمارقين عن القانون، الذين أعمى الجشع أبصارهم وبصائرهم، وصاروا يتآمرون مع أعداء الوطن على سيادته ووحدته الترابية ومصالحه العليا، بل هو موجه أيضا لمن توسوس لهم "عفاريتهم" بخيانة الأمانة، عبر نهب وتبديد المال العام واستنزاف ثروات البلاد والعبث بمصالح العباد.
وإذا كانت المواطنة مبدأ ديمقراطيا، يجسد الكينونة الاجتماعية والشراكة في الحقوق والواجبات، والمشاركة الفعالة في تدبير الشأن العام، يكتسبها الشخص منذ النشأة الأولى، وتأخذ في التبلور تدريجيا وفق تطور مستوى الوعي، ونمو الإحساس العميق بالواجب وروح المسؤولية، فالوطنية أكثر دلالة وأعلى درجات منها. إنها التزام أخلاقي وسياسي بالحفاظ على أمن واستقرار الوطن، وصون سيادته واستقلاله وسلامة ترابه، والحرص على حماية خيراته وعدم التفريط في أي حبة رمل من ترابه، والتصدي لكل الأخطار المحدقة به داخليا وخارجيا، وهي العمل الجاد ونكران الذات من أجل رفعة الوطن، وليست أداة لتحقيق مغانم شخصية، ولا معراجا للارتقاء إلى المراكز السامية عبر المحسوبية، وهضم الحقوق الإنسانية. إنها إحساس مرهف بعشق الوطن حد الذوبان فيه، والانشداد النفسي والذهني إلى الإنسان والأرض، من خلال التفاخر بأفراده وجماعاته وحدوده، بصحرائه وشواطئه وجباله وسهوله وأريافه وحواضره ومدنه ومنشآته ومؤسساته وكافة رموزه...
وفضلا عما سلف، تعد الوطنية تعبيرا وجدانيا عن الولاء للوطن، باعتباره سلوكا يترجم صدق مشاعر الاعتزاز بالانتماء إليه، والاستعداد الدائم للذود عن حياضه والاستشهاد في سبيله. والولاء للوطن من أولى أولويات المواطن في علاقته بوطنه، ومن أنبل القيم الإنسانية، التي ينبغي أن تتجذر في الأذهان وتترسخ في الوجدان، داخل البيت والمدرسة والمجتمع، إثر منهجية ترتكز على مواطنة حقيقية، قوامها العدالة والمساواة والرقابة والمساءلة... وفي هذا الإطار، يمكن استحضار ذاك الدرس البليغ لقائد البلاد، الذي ألقاه في البرلمان أمام المستشارين والنواب إبان شهر أكتوبر 2014، وأكد فيه على حق المغاربة أينما وجدوا، في الفخر بوطنهم، إذ ورد على لسانه: "وكواحد من المغاربة، فإن أعلى إحساس عندي في حياتي هو اعتزازي بمغربيتي، وأنتم أيضا يجب أن تعبروا عن هذا الاعتزاز بالوطن، وتجسدوه كل يوم وفي كل لحظة، في عملكم وتعاملكم وفي خطاباتكم وفي بيوتكم وفي القيام بمسؤولياتكم". ترى ماذا أعد المسؤولون من مشاريع تنموية تنم عن اعتزازهم بالوطن، وخلدوه من أعمال تعبر عن شعورهم بالانتماء إليه، في ظل تنامي الفساد والتنصل من القيام بالواجبات وصيانة الأمانات؟
للأسف الشديد، مازال الخطاب السياسي متدنيا، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في تدهور مستمر، حيث ازدادت رقعة الفوارق الطبقية اتساعا وارتفعت معدلات الفقر والأمية والبطالة والجريمة، جراء سوء التدبير وانتشار الظلم والقهر والغدر ومختلف مظاهر الفساد من رشوة ومحسوبية واستهتار بالمسؤولية، وإنهاك كاهل البلاد بالمديونية وضرب القدرة الشرائية للمواطنين... ثم كيف لوزراء تم إعفاؤهم من مهامهم، إثر فضائحهم المدوية والتقصير في أداء واجباتهم، الحفاظ على مستحقاتهم المالية في الاستفادة من المعاش بدل المحاسبة، والسماح لهم بالترشيح للانتخابات، إلى جوار أشخاص آخرين صدرت في حقهم أحكام قضائية لفساد مالي أو إداري؟ وما معنى مطالبة وزير في حكومة بنكيران المشرفة على الانتخابات، بحل مجلس المستشارين بدعوى أن 70% من الفائزين استعملوا المال بإفراط؟
من هنا، يمكن الجزم بأن خيانة الوطن، لا تنحصر فقط في التآمر على سيادته، فلها وجوه لا تقل عنه بشاعة، منها: اختلاس وتهريب المال العام، شراء الذمم أثناء الانتخابات، نكث الوعود والالتزامات، إهمال الواجبات، تعريض سلامة البلاد للخطر ومؤهلاتها المادية للتبذير والتدمير. والخيانة عكس الأمانة، وأفظع أنواع الغدر، تخالف الحق بنقض العهد، وقيل هي الاستبداد بما يؤتمن عليه الشخص من أموال وأغراض وحرم، وتتحول إلى تهمة "الخيانة العظمى" حينما يتعلق الأمر بالتخابر والتجسس، فتصبح عارا شنيعا يلاحق صاحبه حيا وميتا، وتستوجب معاقبته بشدة ليعتبر من يحاول بيع وطنه، وزعزعة أمنه واستقراره أو القتال ضده وإفشاء أسراره... ولا يمكن للخائن أن يكون إلا شخصا حقيرا وتافها بلا شرف ولا كرامة.
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى ما عرفته انتخابات المجالس الجماعية والجهوية وتشكيل مكاتبها، من إفساد صارخ، حيث أبانت النخب السياسية المعول عليها في استكمال البناء الديمقراطي وتنزيل الجهوية المتقدمة، عن استخفافها بنتائج الاستحقاقات وعدم تحرجها من اللجوء إلى أساليب دنيئة، عاكست مطامح المواطنين، فتحول الفائز خاسرا والخاسر فائزا، واتضح جليا أن بعض الهيئات السياسية لا يشغل بالها عدا مصالحها، مما يكشف عن واقع سياسي مأزوم، بلا أفق ولا أمل في التغيير. وإلا كيف نفسر ما حدث من تحالفات هجينة؟ ألا يدخل مثل هذا السلوك في إطار الإخلال بالتعاقدات وتزوير إرادة الناخبين واستغلال ثقتهم؟
إننا نعيش زمن الانحطاط، ولا يخيفنا ذوو المواقف المزدوجة، اللاهثون وراء المال القذر، المتنكرون لفضائل وطنهم، كانوا انفصاليين أم آخرين غيرهم، فقد يأتي عليهم يوم تصحو ضمائرهم ويتراجعوا عن غيهم، بقدرما يرعبنا من طبعوا أنفسهم على الفساد، وأصبحوا يستغلون مناصبهم في تحقيق أغراضهم الذاتية. أفلا يعد "خائنا"، من ساهم في إتلاف ما اؤتمن عليه من مالية مؤسسات عمومية وإيصال أخرى إلى حافة الإفلاس ك: صناديق التقاعد، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، التعاضديات العامة، الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، البنك العقاري والسياحي، والخطوط الجوية الملكية... بارتكاب جرائم مالية واقتصادية، تقوم في معظمها على تبديد مقدرات الوطن والعبث بمصالح أبنائه، الاغتناء غير المشروع، فساد الذمم، فضلا عن التمتع باقتصاد الريع وامتيازات غير قانونية في مجالات عدة: النقل والسياسة والرياضة والفن والثقافة والتعليم والصحة... في ظل الإفلات من العقاب وعدم تفعيل مقتضيات الدستور؟
فلنسارع إلى حماية الوطن من "أعدائه" المتنفذين في أمكنة عدة، بإحداث أجهزة رقابة حقيقية وربط المسؤولية بالمحاسبة، والانكباب على إعداد أجيال جديدة من المواطنين الصالحين، عبر غرس حب الوطن في قلوبهم ليزدادوا إيمانا واعتزازا به، ويعملون مخلصين على إعلاء شأنه وتحصينه من الجراثيم البشرية المقيتة، بما يضمن له نهضة تنموية حقيقية وبسط أسباب الرفاهية.