ليس غريبا أن يُطلق على محمد مدين، المعروف بلقب "توفيق"، "الباطرون" السابق لمديرية الاستعلامات والأمن ـ وهو اسم جهاز المخابرات الجزائري الرهيب ـ لقب الجنرال الأسطورة صانع الرؤساء، خاصة أن الرجل ظل يتربع على رأس هذا الجهاز ويمسك بيد من حديد جميع مرافقه طيلة ربع قرن من الزمن. أسطورة لأنه الضابط الكبير الوحيد الذي سُلِّطت عليه الأضواء، بالرغم من أنه لم يكن يسعى إليها، بل كان انزوائيا، أصدقاؤه يُعَدُّون على رؤوس الأصابع، ولا يحب الظهور ولا البهرجة.. حسب ما يقول عنه عارفوه. ولعل كثرة الإشارة إليه والحديث عنه في مختلف وسائل الإعلام داخليا وخارجيا، ساهمت، بقدر كبير، في تضخيم اسمه وسمعته وسلطته، وهي الصورة التي تكرست وتَجَذَّرَت في أذهان الرأي العام لدرجة جعلت منه أسطورة الجزائر الحية. وجاء خبر إبعاده عن أقوى جهاز مخابراتي في الجزائر ليضفي جرعة كبيرة في عملية تضخيم الأسطورة مع أن الجزائر عرفت ضباطا آخرين عاصروا الفريق "توفيق" مثل اللواء عبد المالك قنايزية (1990 ـ 1993)، والفريق محمد العماري (1993 ـ 2004) ثم الفريق أحمد قايد صالح، القائد الحالي لأركان الجيش ونائب الرئيس بوتفليقة الذي هو في نفس الوقت وزير الدفاع. يبقى أهم شيء ساعد في نسج طابع الأسطورة حول الجنرال "توفيق" هو اعتباره الرجل القوي في الجزائر، ليس فقط طيلة خمسٍ وعشرين سنة على رأس جهاز المخابرات، بل على امتداد حكم خمسة رؤساء للجمهورية الجزائرية، من الشاذلي بن جديد (1979 ـ 1992)، ومحمد بوضياف (1992 وهي نفس السنة التي تم فيها اغتياله)، وعلي كافي (1992 ـ 1994)، واليمين زروال (1994 ـ 1999) وعبد العزيز بوتفليقة (من 1999 إلى اليوم). وقد عرفت فترة تَوَلِي هؤلاء الرؤساء الحكم في الجزائر عدة تقلبات وأحداث لعل أبرزها استنجاد المؤسسة العسكرية بمحمد بوضياف، أحد القادة التاريخيين للثورة الجزائرية، الذي كان مقيما في المغرب، ليصبح الرئيس المنقذ للبلاد. لكن العسكر الذين استقدموه هم الذين سيغتالونه في مشهد مثير تم نقله على الهواء مباشرة بعد شهور قليلة من رئاسته للجزائر، إلى جانب سنوات الجمر في تسعينيات القرن العشرين التي عاشت الجزائر على إيقاعها عقب فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية (الفيس) في الانتخابات ثم إلغاء هذه الانتخابات والدخول في حرب مفتوحة مع عناصر "الفيس" تحولت إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، حملت اسم "العشرية السوداء"، ذهب خلالها الآلاف من الضحايا.. وبعد هذه الفترة تحولت أنظار المتحكمين في المؤسسة العسكرية نحو منطقة الخليج لتتفقد رجلا اسمه عبد العزيز بوتفليقة، الذي قضت نفس المؤسسة على طموحاته وأحلامه في أن يتولّى الحكم بعد وفاة الهواري بومدين وطردته (نفس المؤسسة) من البلاد شر طردة.. وإرجاعه إلى الجزائر ليتربع على كرسي السلطة منذ 1999 إلى هذا اليوم من سنة 2015. بالطبع كانت لمسة الجنرال الأسطورة "توفيق" واضحة في هذه العملية. واستمر أثر هذه اللمسة طيلة ست عشرة سنة إلى أن تمكّن الرئيس بوتفليقة ـ أو قل البطانة المقربة منه ـ من طرد الجنرال "توفيق" والتخلص منه بصفة نهائية بعد أن ظل على امتداد ربع قرن بمثابة البُعْبُع الذي يخشاه ويهابه الكل في الجزائر. من هنا سيُطْلَقُ عليه لقب ثانٍ، وهو "صانع الرؤساء" ما دام أنه لا يمكن لأيةّ شخصية في الجزائر أن تحلم أو تتطلع إلى كرسي رئاسة الجمهورية دون ترتيبات وضوء أخضر من المؤسسة العسكرية. لكن الجنرال توفيق لم يكن وراء صناعة رؤساء الجمهورية، بل كان أيضا صانع رؤساء الحكومة الذين تعاقبوا على السلطة في هذا البلد، وعددهم ثلاثة عشر. وبناء على هذا، لم يكن غريبا أن يكون شبح الجنرال الأسطورة مخيّما على تعيين أيّ رئيس حكومة أو وزير أول جزائري، ابتداء من مولود حمروش (1989 - 1991)، وسيد أحمد غزالي (1991 ـ 1992)، وعبد السلام بلعيد (1992 - 1993)، ورضا مالك (1993 - 1994)، ومقداد سيفي (1994 ـ 1995)، وأحمد أويحيى (1995 - 1998)، وإسماعيل حمداني (1998 - 1999)، وأحمد بن بيتور (1999 - 2000)، وعلي بن فليس 2000 - 2003، وأحمد أويحيى (2003 - 2006)، وعبد العزيز بلخادم (2006 - 2008)، وأحمد أويحيى (2008 - 2012)، وأخيرا عبد المالك سلال من شتنبر 2012 إلى اليوم. يتضح من خلال هذا مدى الحضور القوي لشخص اسمه محمد مدين، الملقب بـ"توفيق" الذي ستطلق عليه ألقاب، من قبيل الجنرال الأسطورة، صانع رؤساء الجمهورية، صانع رؤساء الحكومة، رفيق درب جنرالات كبار في المؤسسة العسكرية التي تحكم البلاد منذ استقلالها سنة 1962 إلى اليوم. هذا الحضور الطاغي لم ينحصر فقط على مسألة تعيين الرؤساء بل كان وراء إقالة وإبعاد كبار المسؤولين الذين لم يعودوا يحظون برضا هذه المؤسسة وليس بثقتها. يكفي أن نعرف أن الرجل كان وراء تعيين وإبعاد خمسة رؤساء دولة، وثلاثة عشر رئيس حكومة، وثلاثة قادة أركان الجيش، أما الوزراء والمسؤولون السامون فيُعَدُّون بالمئات. لعل الكثيرين في الجزائر سيتنفسون الصعداء بعد هذا الإبعاد غير المنتظر. لكن من المؤكد أن أنفاس الكثيرين في الجزائر ستظل محبوسة وهم يرون أن بلادهم تسير نحو المجهول.