بعد أن وضعت الانتخابات الجماعية والجهوية لـ 4 شتنبر 2015 أوزارها، واستقر رأي الناخب على ما استقر عليه، وتشكلت مجالس الجهات الاثنتا عشر، وتشكلت مجالس المدن والمقاطعات والبلديات والجماعات المحلية، تستحق هذه المحطة وقفة متأنية، تضع لغة الأرقام وحسابات الصناديق جانبا، وتضع هذه الانتخابات في مكانها من التطور التاريخي للمغرب.
فالرابح الأكبر من هذه الانتخابات هو الوطن، بعدما استطاع أن ينحت تجربة ديمقراطية فريدة في محيط إقليمي تتجه جل دوله إلى الدوائر الكاسدة والفاشلة وفق مؤشرات وتصنيفات التقارير الدولية بعد فقدان السلطات المركزية فيها للسيطرة على أجزاء كثيرة منها لمصلحة الفوضى، وانعدام الأمن والاستقرار.
ويضيف المغرب في هذه الانتخابات نقاط إيجابية جديدة، تمثلت في تحرير "الصوت" الإنتخابي، وتقوية إرادة الناخب، وتحرير الاختيارات السياسية عبر الاحتكام لصناديق الاقتراع، وتقليص هوامش التدخل القبلي في عمليات التقطيع الانتخابي، وتقدم ملحوظ في الحياد الإيجابي للسلطات، وتوسيع مجال تدخل القضاء في النزاعات الانتخابية، وفسح المجال للمجتمع المدني والحقوقي في مراقبة مجريات العملية الانتخابية.4
والرابح الأكبر هو الوطن بعدما أفرزت نتائج هذه الانتخابات نخبا وكفاءات جديدة ستستفيد منها المؤسسات التمثيلية والمجالس التدبيرية، ما سيسهم قطعا في تنشيط العملية التنموية في هذه المؤسسات، بعدما عانت من عجز مزمن في إفراز أي تغييرات كبرى على مستوى نخبها لعقود طويلة، بسبب التحكم والفساد الذي كان يستشري في الانتخابات، ويحمل إلى أعلى هرم المؤسسات التمثيلية من يستطيع شراء الذمم، والتقاطع مع لوبيات الفساد الانتخابي.
والرابح الأكبر هو الوطن بعد المؤشرات الإيجابية الكثيرة في عودة ثقة المواطن المغربي في السياسة والأحزاب والتي أبرزتها نسبة المشاركة التي ناهزت 53 بالمائة، في مقابل الانحدار الكبير الذي شكل هاجسا لدى السياسيين والدولة على حد سواء في انتخابات 2007 والتي لم تتعد فيها نسبة المشاركة 37 بالمائة، ما يعطي أملا كبيرا في عودة الأحزاب السياسية إلى لعب دورها في التأطير والتثقيف في المجتمع.
وربح الوطن أيضا في ترجمة دستور 2011 بسياقاته السياسية والتشريعية والمؤسساتية، وقطع الطريق أمام التمثل السائد في اعتبار مكاسب هذا الدستور مجرد "انحناءة" أمام "الربيع العربي"، هذا التمثل أعطى قوة ومعنى للسياسة، وضمانات كبيرة للفاعلين السياسيين.
إن المؤشر الأكبر على التحول هو تلك النبرة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يخطئها المتتبع في الخطابات الملكية، والتي تضمنت حرصا شديدا على نجاح المغرب في هذا الرهان، وعبر عنه النطق الملكي في 20 غشت 2015 بالقول إن "الانتخابات المقبلة، التي تفصلنا عنها أيام معدودات، ستكون حاسمة لمستقبل المغرب، خاصة في ظل ما يخوله الدستور والقانون من اختصاصات واسعة لمجالس الجهات والجماعات المحلية".
لقد اعتبر الخطاب الملكي هذه الانتخابات أول خطوة في ثورة الوطن وعبر عنها بالقول:" وإذا كان لكل مرحلة رجالها ونساؤها، فإن الثورة التي نحن مقبلون عليها لن تكون إلا بمنتخبين صادقين، همهم الأول هو خدمة بلدهم، والمواطنين الذين صوتوا عليهم".
قد لا تندثر الدوائر السلبية المتمثلة في استعمال المال في شراء الذمم والتي جاءت في تقارير المراقبين الدوليين والمحليين، والضغط على المنتخبين في تشكيل المجالس الجهوية بشكل كلي، وتعتبر مؤشرا سلبيا في هذه الانتخابات، لكنها يقينا ستتقلص بشكل أكبر في ظل تنامي يقظة المواطن لحماية "الأصوات" الانتخابية وحماية اختيارات صناديق الاقتراع، وتزايد الحياد الإيجابي للسلطة.
وبكلمة، يمكن اعتبار الانتخابات الجماعية والجهوية التي جرت في 4 من شتنبر 2015 نجاحا باهرا للمملكة المغربية، بالنظر إلى ثلاث سياقات أسياسية، السياق الإقليمي الذي تجرفه النزاعات وتغلبه الفوضى، والسياق التاريخي للانتخابات المغربية، والسياق السياسي المتمثل في الاختيارات الديمقراطية القوية لما بعد دستور 2011.
جواد غسال