قرار تنحية الفريق محمد مَديَن ـ المدعو توفيق ـ من على رأس المخابرات الجزائرية كان تحصيل حاصل ومع وقف التنفيذ منذ سنتين.. منذ بدأ الرئيس ومحيطه يقصان أجنحته الواحد تلو الآخر: البداية بحل مديرية الإعلام (الدعاية والحرب النفسية) ثم مديرية الشرطة القضائية بالمخابرات (التي يقال إنها كانت وراء ملفات الفساد الكبرى)، وكذلك تحويل مديرية أمن الجيش من يد المخابرات إلى قيادة أركان الجيش. تزامن ذلك مع عزل مَديَن عن رجاله ومساعديه بإحالة بعضهم إلى التقاعد والتضييق على آخرين وملاحقتهم قضائيا. وتزامن كذلك مع السماح لبعض السياسيين بالتهجم على مَديَن شخصيا ثم تعيد وسائل الإعلام نشر التهجم حرفياً بلا خوف.
قبل ذلك كان الرؤساء يخشون سطوة هذا الرجل وجهازه، والوزراء لا يجرؤون على طلب مقابلته، ولا يمتلكون شجاعة ذكر اسمه في مجالسهم، فيصفونه بـ»صاحب السيجار».
قاد الفريق توفيق جهاز المخابرات الجزائرية منذ خريف 1990. ربع قرن في وظيفة عامة في أحلك ايام وسنوات الجزائر المستقلة، لم يظهر خلاله في الإعلام ولو مرة واحدة، لا صورة له إلا من واحدة بعيدة مشوشة بالأبيض والأسود تعود إلى ما قبل توليه رئاسة المخابرات. كان الصحافيون والمصورون يُمنعون من الأماكن التي يتحرك فيها، وحتى الذين رأوه بالعين المجردة في مناسبات رسمية محدودة لم يجرؤوا على التقاط صورة له خوفا من ردة فعله ومحيطه. لا أحد من عامة الجزائريين سمعه يتحدث أو يعرف صوته.
صَنَعَ الرؤساء، وقاد حرباً شرسة على الإسلاميين كانت كلفتها مئات آلاف القتلى وملايين المهجّرين والسجناء والمنفيين، ومجتمعا مصدوما للمئة عام المقبلة. كل ذلك دون أن يره أحد!
هذه بعض المعطيات التي قد تساعد في فهم كيف صنع الرجل لنفسه (أو صنعوا له) أسطورة كأنه ليس من الإنس.
ثم جاء بوتفليقة.
لم يأت وحده بل جاء به الفريق مَديَن الذي يبدو أنه كان شديد التمسك ببوتفليقة بدليل أنه حاول إغراءه بالرئاسة في 1993 فاختلف الطرفان في آخر لحظة فركب بوتفليقة الطائرة عائداً إلى سويسرا. ثم كرر المحاولة في 1999 ونجح.
إبعاد الفريق مَديَن حدث جلل في الحياة العامة الجزائرية. بعد كل هذه الفترة التي قضاها في منصب المسؤولية الأهم والأخطر على الإطلاق، وإنصافا للرجل والأجيال المقبلة (لأنه لعب دوراً في صياغة مصير ومستقبل أجيال من الجزائريين)، من العدل ألا يمر عزله مرور الكرام.
هذا رجل ليس كباقي الرجال.. يجب أن يُكرّم أو يُحاسَب. قد يكون رجلا وطنيا مخلصا امتلك شجاعة تحمل مسؤولية عظمى وأفنى ربع قرن من عمره متحملا أعباء لا قِبل لرجل طبيعي بها، فوجب على الجزائر مكافأته. وهذا الطرح له أنصار في أكثر من مكان بما في ذلك أجهزة الدولة (إلا إذا انقلبت الآراء بعد أن سقط الثور!).
وقد يكون مجرد طاغية آخر عاث، ورجاله، في الأرض فساداً وظلما بحكم قوة منصبه ونفوذه، لم يمتلك شجاعة الاستقالة في ذروة الإخفاق الأمني سابقا ثم بعد تجريده من صلاحياته، فتمسك بكرسيه ربع قرن إلى أن قُذف منه قذفاً، فحق للجزائر أن تحاسبه. وهذا الطرح له أيضا أنصار في أكثر من مكان، ولا شك أن في الجزائر مَن شرب ليلة الأحد نخب بشرى إبعاد «صاحب السيجار».
في الحالتين كان يجب أن يرحل. وكان أكرم له لو طلب إعفاءه، وإن طلبه كان أحرى ببوتفليقة الموافقة له وتسهيل رحيله إكراما للمنصب والجهاز على الأقل.
بهذا القرار، والقرارات الأخرى السابقة المتعلقة بجهاز المخابرات الجزائرية، سيدخل بوتفليقة التاريخ. لكن التاريخ لا يرحم، ودخوله ليس دائما محمدة!
سيدخل بوتفليقة التاريخ باعتباره الرجل الذي خلّص الجزائريين من جهاز جثم على أنفاسهم منذ ما قبل الاستقلال، فأفتى في كل صغيرة وكبيرة وتدخل بالموافقة أو المنع في كل القرارات (بما في ذلك اختيار رؤساء البلديات ولجان الأحياء)، وراقب كل الناس كل الوقت، سحق أبرياء اكفاء ورفع معتوهين فاسدين. وباعتباره الرجل الذي أنهى الأسطورة وفضح الفزاعة.
هذا البعبع الذي لازم الجزائريين في حياتهم قرروا التعايش معه هكذا: عندما يريد جزائري يتوفر فيه القليل من الأناقة و»الشطارة» قضاء حاجة معقدة أو القيام باحتيال ما، يقدّم نفسه بصفته عقيداً في المخابرات!
أو سيدخل بوتفليقة التاريخ باعتباره الرئيس الذي فكك جهاز المخابرات عندما كانت الجزائر في ذروة حاجتها إليه، وعندما كانت الأخطار محدقة بها من كل حدودها، وعندما كانت دول العالم تحصّن أجهزة مخابراتها وتمنحها المزيد من الصلاحيات والإمكانيات.
بعد سنوات من التكهنات والاجتهادات تأكد اليوم أن الفريق الرئاسي كان في صراع مع جهاز المخابرات، صراع بدا كأنه شخصي بين بوتفليقة ومَديَن. تؤكد ذلك صيغة الخبر الذي وزعته
وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية نقلا عن بيان الرئاسة الذي تحدث صراحة عن أن الرئيس «أنهى مهام» الفريق مَديَن.
الآن وقد انتهت المعركة بانتصار بوتفليقة، وبعد هذه الجرأة التاريخية التي لم يسبقه إليها رئيس قبله، حق للجزائريين أن يسألوا: هل سيمتلك رئيسهم جرأة الانسحاب هو أيضا؟ وإن لم يجرؤ، فمن سيخلصهم منه؟ خصوصا أن حالته الصحية متردية، والبلد بعد 16 سنة من حكم آل بوتفليقة في حالة مثيرة للشفقة.
توفيق رباحي القدس