بدا العنوان مثيرا في صحيفة «لوموند» الفرنسية : «تقدم الإسلاميين يمثل مشكلة حقيقية بالنسبة للملكية»، ومازاد المادة الصحفية شدا للإنتباه هو أنها تحمل بصمة العلوم السياسية المغربية. ومرة أخرى كانت الصحيفة الفرنسية العريقة حرفية في أن تبعث استيهاماتها بلسان مغربي أفردت له حوارا مطولا فيه نفحة الثورية اليسارية أكثر منه مهنية البحث العلمي واستنتاجات التحليل الرصين.
عل طول مقاطع الحوار حاولت أن أجد ما يقدم سندا مقنعا لهذه الخلاصة القوية التي تقذفنا بها «لوموند»، لكن الواضح أن ما كان يهم طرفي المقابلة الصحفية هو النتيجة والموقف ولو أعوزتهما الحيثيات. لنتفق منذ البداية على أن الملكية فاعل سياسي في المغرب مثلما هي مؤسسة دستورية، وعلى أننا لم ننتقل بعد إلي الملكية البرلمانية كما في بريطانيا أو نحاكي ديمقراطية سويسرا، لكن ليس لتلك الدرجة التي تجعل التحليل ينتهي إلى هذا الأفق المشحون بأجواء الإستبداد وهو يجعل ملك المغرب يبدو حزينا مضطربا لأن إخوان عبد الإله ابن كيران اكتسحوا تمثيلة الحواضر واحتلوا الرتبة الأولى بأعلى الأصوات في الجماعات والجهات.
على العكس من ذلك تماما تظهر لي الملكية في قمة نضجها السياسي وثقتها في قواعد لعبة نظام ديمقراطي ناشئ، لو كان صعود الإسلاميين في الإنتخابات المحلية سيكون مصدر قلق لما تم الإصرار على إجراء انتخابات تنافسية، كان يمكن لنطام الصفقات أن يستمر في الكواليس، ويخرج ابن كيران كما عودنا على ذلك ليؤكد أن حزبه سيقلص من نسبة ترشيحاته وأنه يراهن على انتخابات 2016، لكن الذين يستهويهم القلق الملكي من ال«بي جي دي» لا تهمهم هذه الإضافة الثورية للتنافسية السياسية في المغرب، لقد مضت تلك المرحلة التي يخضع فيها منسوب المنافسة للضبط المسبق وتغلق فيها جميع الممرات في وجه المفاجآت غير المتوقع.
وفيماذا سيقلق العدالة والتنمية بالضبط القصر باحتلاله الرتبة الأولى إذا كانت مجالس الجماعات والجهات وحدات إدارية وليست حكومات محلية مستقلة أو أنظمة حكم ذاتي خاصة، وحتى حين فاز العدالة والتنمية بأغلبية غير مسبوقة في تاريخ الإنتخابات البرلمانية بحصده 107 في تشريعيات 2011 لم يربك ذلك معادلات اللعبة السياسية، وعلى مدى أربع سنوات أثبت عبد الإله ابن كيران أنه يقود حزبا ليبرالي التفكير الاقتصادي، ملكي المقاربة السياسية، وليس تيارا ثوريا يخطط لعزل سلطات الملك في حدود برتوكولية ضيقة.
وإن كان هناك من مصدر قلق حقيقي للملكية من النتائج التي حققها حزب العدالة والتنمية فليس أن يحصد مليون و 500 ألف صوت، بل أن يعجز رغم كل الثقل الذي نزل به في مرحلة التسجيل في اللوائح الإنتخابية وفي الحملة الإنتخابية، عن استقطاب ناخبين جدد ويوسع بالنالي من القاعدة الإجتماعية للديمقراطية الناشئة، لقد كان استقرار نسبة المشاركة في حدود 53 في المائة بزيادة نقطة واحدة عن 2009 دليلا مقلقا على أن العرض السياسي الذي تقدمة اللعبة التي يوجد العدالة والتنمية اليوم في قلب ديناميتها مازال يجد صعوبة في توسيع قاعدة الجمهور.
وفي هذه النقطة بالضبط يمكن للمكية أن تشعر بالإطمئنان من قاعدة المصوتين الذين يحتفظ بهم الحزب الإسلامي المعتدل، إنه يقدم نفسه اليوم باعتباره الحزب الوطني الوحيد القادر على مزاحمة المشاريع السياسية المغامرة للتيارات الإسلامية التي ماتزل ترفض الإعتراف بقواعد اللعبة وبشرعية النظام، إنه وباختصار شديد الحزب المؤهل اليوم اليومعلى لعب الأدوار التي كان يقوم بها الإتحاد الاشتراكي وحزب الإستقلال، وحتى وإن كان «البام» قد حقق نتائج تقدمه كحزب تأطيري قوي، إلا أن قدرته على مواجهة إسلاميي الشارع وليس البرلمان ماتزال غير مجربة.
يمكن لهذا السجال أن يستمر إلى ما لانهاية، لكن يبدو أن صحيفة «لوموند» ومحاورها من المغرب قد وضعوا نتيجة مسبقة يريدان التأكيد عليها ولا يهمهما الخوض في الحيثيات التي ليس أقلها أهمية أن الملكية في المغرب لا تستغل موجه الخريف الإسلامي، وتشكل مشاعر الإرتياب والتوجس من الإسلاميين في العالمين العربي والإسلامي وفي العواصم الدولية لتسحب البساط من تحت حزب العدالة والتنمية، وعلى العكس من ذلك، يعطي القصر نموذجا متفردا في القدرة على التعايش بين نظام ملكي ذو مرجعية دينية وحزب يتوسل إلى السياسة بمرجعية إيديولوجية دينية، وهو من دون شك يؤكد لمحيطه الإقليمي والدولي أن خيار اللعبة السياسية المفتوحة في المغرب هو خيار لا رجعة فيه مهما كانت المفاجآت التي قد تفرزها صنايق الإقتراع.
يونس دافقير.