المتتبع النبيه لما يحدث حوله يلتقط إشارات قوية كلها دالة على أن المغرب يتعرض في الآونة الأخيرة لمحاولات داخلية وخارجية متكررة لزعزعة استقراره.
هناك من جهة الأسلحة التي تحاول بعض الجهات إدخالها إلى المغرب وتتم مصادرتها في الحدود أو لدى شبكات الإرهابيين، وهناك المحاولات المتكررة للمس بثوابت البلد من طرف حركات يقودها أشخاص يشتغلون وفق أجندات خارجية تبحث بكل الطرق لإشاعة الفتنة والفرقة بين المغاربة، وهناك حرب الكتب التي تركز كلها على الملك في محاولة لضرب المؤسسة التي تقوم عليها سائر المؤسسات الأخرى، ثم هناك الأخطر، وهو ابتزاز الدولة ومحاولة تهديد أمنها الطاقي باتخاذ مسؤولي شركة «سمير» قرار توقيف وحدات الإنتاج بالمحطة التي تزود المغرب بثمانين بالمائة من حاجياته للمحروقات.
سنتحدث اليوم وغدا حول «صناعة الكتب المفترسة» التي تحولت لدى طبقة من الصحافيين إلى أداة لابتزاز النظام، على أن نخصص الأعمدة المقبلة لتفصيل الحديث حول الأسباب الحقيقية وراء تفليس شركة «سمير»، ووضع الدولة المغربية أمام الأمر الواقع.
في سنوات الثمانينات كان التلفزيون الوحيد المسموح بمشاهدته يبث كل أسبوع سلسلة عنوانها «الرجل الذي يساوي ثلاثة ملايير»، وكنا نجلس مشدوهين أمام الشاشة لمتابعة خوارق «ستيف أوستن» الذي يطوي الفولاذ بقبضة يده كما لو كان يطوي «المسمن»، ويركض مئات الكيلومترات في الثانية ويسمع ذبيب النمل بأذنيه العجيبتين.
بعدما انتهت حلقات سلسلة «الرجل الذي يساوي ثلاثة ملايير»، شرعوا في عرض سلسلة أخرى، بطلتها امرأة هذه المرة، عنوانها «جيمي القوية»، وبمجرد ذكر هذا الاسم على أسماع جيل السبعينات حتى تلتقط آذانهم تلك الرنة المصاحبة لجيمي القوية وهي تركض ركضتها الخرافية «تكتك تكتك تكتك…»، أو وهي تقفز من عمارة شاهقة لتسقط على قدميها سالمة غانمة.
بالطبع عندما كبرنا فهمنا أن «ستيف أوستن» و«جيمي القوية» لم يكونا سوى شخصيتين من عالم الخيال، وأن كل القوى الخارقة التي كانا يبهران بها مشاهديهم لم تكن سوى سينما.
تذكرت هذين الشخصيتين عندما قرأت خبر اعتقال الصحافيين الفرنسيين «إيريك لوران» و«كاترين غراسيي»، ووجدت أنهما يشبهان كثيرا «الرجل الذي يساوي ثلاثة ملايير» و«جيمي القوية». فقد مثلا معا طيلة سنوات طويلة دور الصحافي الاستقصائي البطل المغوار الذي يحارب الشر ويسعى لإقامة الحق والعدل. إلى أن سقط القناع عن وجهيهما واكتشفنا أنهما طالبا القصر بثلاثة ملايير مقابل الإحجام عن نشر كتاب حول الملكية يتضمن حسبهما معطيات مهمة.
وهناك مثل مغربي يقول «الطماع ما يقضي عليه غير الكذاب»، وهذا بالضبط ما وقع للصحافيين الجشعين عندما صدقا أن ما كتباه يستحق ثلاثة ملايير، وأن القصر مستعد لدفع المبلغ، فذهبا إلى ثلاثة مواعد كانت في علم الشرطة الفرنسية، آخرها كان موعدا في مطعم باريسي وقعا فيه على عقد يلتزمان بموجبه بعدم نشر أي كتاب وتسلما ثمانين ألف أورو، أربعين ألفا لكل واحد منهما، وغادرا المطعم قبل أن توقفهما الشرطة الفرنسية في الباب وتعتقلهما بتهمة الابتزاز.
ليس «إيريك الذي يساوي ثلاثة ملايير» أو «غراسيي القوية» هما أول من حاول ابتزاز القصر، بل إن تاريخ هذه المؤسسة مع «الصحافيين المفترسين» قديم وحافل بالحوادث التي لم تخرج إلى العلن بسبب عدم رغبة المغرب في خلق تشنجات ديبلوماسية مع دول هؤلاء الصحافيين الذين ضبطوا بالصورة والصوت متلبسين بالابتزاز، لكنهم آثروا السلامة خوفا من الشوهة فابتلعوا تهديداتهم وتم طي ملفاتهم دون شوشرة وصاروا مواطنين غير مرغوب فيهم داخل المملكة.
والابتزاز الذي يمارس في حق الدول ليس له وجه واحد، فهو يأخذ أحيانا شكل كتب يؤلفها صحافيون يعتقدون أنهم يحتكرون الأصل التجاري لإعطاء الدروس للدول التي استعمرها بلدهم.
وتصبح هذه الكتب سلاحا يحركه هؤلاء الكتبة أمام رؤساء الدول المتخلفة إما من أجل إخضاعهم لسياسة بلدهم والحصول لشركاتهم الكبرى على امتيازات اقتصادية حصرية، وإما من أجل ابتزازهم والحصول منهم على مبالغ مالية مهمة وامتيازات عند دخول البلد والإقامة فيه.
أما الوجه الأكثر بشاعة للابتزاز فهو تسليط وكالات الأنباء الرسمية لدولة المستعمر السابق للنبش في الجوانب السلبية لسياسة البلد الداخلية من أجل تصويره في شكل جمهورية من جمهوريات الموز، تماما كما تصنع وكالة الأنباء الفرنسية مع المغرب.
والباقي تكمله تقارير المنظمات الدولية التي تشتغل على أنظمة الدول المستهدفة وفق أجندة مضبوطة على التوقيت العالمي.
والهدف في نهاية المطاف هو ابتزاز الدول وتهديدها في أمنها واستقرارها من أجل الحصول على امتيازات مالية واقتصادية، وقد حصل هذا لسنوات طويلة مع صدام العراق وبنعلي تونس وليبيا القذافي ومصر مبارك، ولوائح الصحافيين العرب والغربيين الذين كانوا يتقاضون ثمن صمتهم من الديكتاتوريات العربية معروفة ومنشورة.
والواقع أن تجارة الابتزاز الفرنسي للمغرب قديمة، وقد عرفت أوج ازدهارها خلال حكم الحسن الثاني الذي لم ترحمه الصحافة الفرنسية يوما واحدا طيلة حكمه.
لقد شكل الحسن الثاني عقدة للدولة الفرنسية منذ كان أميرا منفيا في جزيرة مدغشقر رفقة والده السلطان محمد الخامس وأسرته.
وكانت تقارير المخابرات الفرنسية تقدمه على شكل أمير متمرد يكره الغطرسة الفرنسية ويتحداها، عكس أخيه الأمير مولاي عبد الله الذي كانت تقارير المخابرات الفرنسية تشيد به.
وبمجرد ما اعتلى الحسن الثاني العرش بدأت الحرب الإعلامية الفرنسية عليه، فتوالت المقالات المسمومة والروبورتاجات الموجهة والحوارات التي ظاهرها المودة وباطنها الشر والبغضاء.